السبت - 21 ديسمبر 2024
السبت - 21 ديسمبر 2024

البابا وحصاد زيارة العراق.. الأخوة الإنسانية طريق السلام

عبر 3 أيام متصلة من الزيارات الميدانية، حمل قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، آلامه الجسدية، وآماله الإنسانية، ومضى زائراً للعراق من شماله إلى جنوبه، حاملاً رسالة واحدة: جميعكم إخوة. حملها لكل العراقيين، وليس للمسيحيين فحسب، والأخوة تَجُب كل الضغائن، وتغفر كل النقصات.

محطات الزيارة

التقى فرنسيس بالسياسيين، ووجه إليهم خطاباً إنساني النزعة، إيماني التوجه. قابل رجال الأديان من كل المذاهب والنحل والملل، وزار أحد أكبر مرجعيات الإسلام الشيعي على أرض العراق، وفي هذه جميعها أظهر فرنسيس أنه من الممكن جداً أن يتعايش البشر رغم اختلافاتهم العقائدية والدينية. الاختلاف والتعدد يثري، ولا ينتقص من السبيكة الاجتماعية لأي دولة أو جماعة بشرية.

كان التساؤل الرئيسي لعدد وافر من المحللين السياسيين قبل الزيارة، وحكماً سوف يستمر بعدها: هل هناك شيء ما سوف يتغير في العراق، وعلى صعيد العراقيين بعد تلك الزيارة؟

لم يحمل فرنسيس أجندة سياسية لزيارته، فقد جاء حاجاً روحياً إلى الأرض التي ولد فيها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، وكل ما حمله معه رسالة محبة وأمل ورجاء.

شجاعة فرنسيس هي التي دفعته في طريق العراق رغم الجائحة التي ألمت بالعالم. وفي وقت يحاول فيه العالم أن يخرج منها، لا سيما بعد أن انسحبت تأثيراتها على البشرية بشكل غير مسبوق، صحياً واجتماعياً واقتصادياً، ومن أسف أنها ضربت العالم في وقت كان يعاني فيه الهشاشة وعدم الاستقرار، الأمر الذي يتطلب جهوداً إنسانية مشتركة من كل إنسان؛ لاتخاذ العديد من الخطوات الضرورية، بما في ذلك توزيع عادل للقاح يشمل الجميع.

حصاد الزيارة

أنفع وأرفع حصاد لزيارة فرنسيس هو أنه وضع العراقيين أمام لحظات تأمل لحالهم ومآلهم، عسى أن يتفكروا و يتدبروا أمرهم، فعلى مدى العقود الماضية عانى العراق كوارث الحروب وآفة الإرهاب، ومن صراعات طائفية تقوم غالباً على أصولية لا تستطيع أن تقبل العيش في سلام مع الآخر المختلف عرقياً أو دينياً.

كانت مبادئ ومنطلقات وثيقة الأخوة الإنسانية، التي جرى توقيعها في أبوظبي في فبراير من عام 2019، حاضرة بقوة في كل كلمات فرنسيس، التي ألقاها داخل العراق، سواء تلك التي خاطب بها السياسيين، أو رجالات الدين.

مخرجات الحصاد توضح لنا أن العيش الأخوي، كما يرى بابا روما، يحتاج إلى حوار صابر وصادق، يحميه العدل واحترام القانون، وهي مهمة وصفها فرنسيس بأنها ليست سهلة، بل تتطلب جهداً والتزاماً من الجميع، للتغلب على روح العداء والمجابهات.

أجمل ما تركه فرنسيس للعراقيين، الدعوة للتفكر الواسع بالمعنى الروحي وليس الأيديولوجي، الأخيرة تأخذنا إلى ضيق رؤى، فيما الروحانيات تحلق بنا في سما السماوات، وهذا ما يستشف من كلمته في مدينة أور التاريخية العريقة.

خطاب للعالم

من أرض أور خاطب فرنسيس العالم برمته، وليس العراقيين فحسب، معتبراً أنه يتحدث من أرض إبراهيم، مؤكداً أن الله، سبحانه وتعالى، رحيم، وأن أكبر إساءة هي أن ندنس اسمه القدوس بكراهية إخوتنا.

العداء والتطرف والعنف، بحسب الفقير الذي يعيش وراء جدران الفاتيكان، لا يصدر عن نفس متدينة، بل هذه كلها خيانة للدين.

وضع فرنسيس العراقيين وكل شعوب الأرض أمام مطلب إنساني وإيماني، وذلك حين خاطب المؤمنين بأنه ليس عليهم الصمت عندما يسيء الإرهاب إلى الدين، بل واجب علينا إزالة سوء الفهم، وألا نسمح لنور السماء أن تغطيه غيوم الكراهية والإرهاب والحرب والعنف والظلمة، مهما كانت كثيفة كما عاش العراق.

عاش العراق في السنوات الأخيرة أزمة وجودية، ولولا رحمة من ربك لوقع بين أنياب إرهاب مؤدلج أسود، كان طريقه محفوفاً بالموت، ومزروعاً بالدم والقتل والسفك والإرهاب، الأمر الذي جعل ذلك البلد الحضاري رهينة في أيدي تنظيمات إرهابية.

طريق السلام

ولعل الزيارة السريعة التي لم تتجاوز 3 أيام، قد فتحت أعين العراقيين على طريق آخر مدعوين إليه، طريق السلام، ذاك الذي يتطلب من الجميع في العاصفة الاجتهاد معاً بالاتجاه نفسه.

رسالة فرنسيس الرئيسية للعراقيين، هي أنه لن يكون هناك بعث روحي للعراق، إذا اهتم كل واحد بشؤونه الخاصة فقط، ولن يكون هناك سلام بدون مشاركة وقبول الجميع للجميع، وبدون عدالة تضمن المساواة والازدهار للجميع، بدءاً من المستضعفين.

حصاد فرنسيس في العراق كان لا بد أيضاً أن يوجه إلى بقية دول العالم، فقد شاركت قوى إقليمية ودولية في مأساته، والآن يتوجب على الجميع أن يمد يد العون لانتشال العراق من وهدته، وهنا فإن فرنسيس أكد على أنه لن يكون هناك سلام بدون أن تمد الشعوب يدها إلى الشعوب الأخرى، ولن يكون هناك سلام ما دامت التحالفات تنشأ ضد أحد ما، لأن تحالفات البعض ضد البعض لا تزيد إلا الانقسامات.

وصفة فرنسيس

قدَّم فرنسيس للعراقيين وصفة سهلة، لكن يمكننا النظر إليها ضمن تصنيفات ما يعرف بالسهل الممتنع، وصفة تذهب إلى أن السلام ليس فيه غالبون ومغلوبون، بل إخوة وأخوات، يسيرون من الصراع إلى الوحدة، رغم سوء التفاهم وجراح الماضي.

على أرض إبراهيم ارتفع صوت فرنسيس الآتي من بعيد، من الأرجنتين، في أمريكا اللاتينية، بلاد لاهوت التحرير، والسعي لعتق الإنسان من قيود الحداثة الواهية، ارتفع قائلاً «علينا نحن إنسانية اليوم وقبل كل شيء، نحن -المؤمنين من كل الأديان - أن نحول أدوات الكراهية إلى أدوات سلام».

كان الحلم النبوي عند أشعياء، أحد كبار أنبياء بني إسرائيل، يتحدث عن «السيوف التي ستتحول إلى سكك، والرماح التي ستؤول إلى مناجل»، أي أدوات الحرب التي ستضحى سلماً، لكن من أسف لم تتحقق هذه النبوءة، فصارت السيوف والرماح صواريخ وقنابل.

ترك فرنسيس للعراقيين علامة استفهام جذرية وعليهم التفكير في جواب لها، وعنها: من أين يبدأ السلام؟ وكيف يمكن الوصول إليه؟

كلمات فرنسيس الأخيرة، كانت «المحبة قوتنا». فهل يستعيد العراق والعراقيون مودتهم لانتشال دولتهم؟