يواجه سوق العقارات العالمي تحديات عديدة تهدد "الطفرة" التي عاشها أكثر من عقد، منها تشدد السياسات النقدية التي تنذر بمخاطر ركود تضخمي متسارع، واضطراب أسواق المال العالمية، وحرب الاستنزاف الكبيرة في أوكرانيا.
لجأت البنوك المركزية حول العالم إلى رفع أسعار الفائدة بسرعة، لمحاربة التضخم المستشري، وهو ما رفع تكلفة الاقتراض أمام الأشخاص الساعين لشراء عقارات وجعلهم يترددون كثيراً قبل الاقدام على هذا القرار. لذلك نشهد هدوءًا مفاجئاً في أسواق العقارات السكنية في بلدان مثل كندا والولايات المتحدة ونيوزيلندا التي عرفت بقوة ونشاط أسواقها العقارية، فيما يبدو ارتداداً حاداً عن سنوات من ارتفاع الأسعار التي تغذَّت على معدَّلات الرهن العقاري المنخفضة والتحفيز الحكومي، جنباً إلى جنب مع الجائحة التي شجّعت العمل عن بعد، ودفعت مشتري المنازل للبحث عن مساحات أكبر.
يُظهر تحليلٌ أجرته «بلومبيرغ إيكونوميكس» أنَّ 19 بلداً من بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي جمعت بين نسب الأسعار إلى الإيجارات ونسب أسعار المساكن إلى الدخل، وهي نسب أعلى اليوم مما كانت عليه قبل الأزمة المالية عام 2008، ما يشير إلى أنَّ الأسعار تجاوزت أساسيات الاقتصاد.
يعدُّ الحدّ من ارتفاع أسعار المساكن هدفاً رئيساً من أهداف صانعي السياسات في سعيهم لكبح أسرع تضخم منذ عقود، ولكن بينما ترتجف الأسواق من احتمالات الركود العالمي، فإنَّ تباطؤ سوق الإسكان من شأنه أن يعمِّق الركود الاقتصادي. كما يمكن أن يؤدي هبوط أسعار المساكن إلى تآكل ثروات الأُسر وانحسار ثقة المستهلكين إلى جانب تقويض التنمية المستقبلية.
يرى روب سوبارامان، رئيس أبحاث الأسواق العالمية في شركة «نومورا هولينغز» (Nomura Holdings)، أنَّ «الخطر يكمن في تراجع الدورات التجارية والمالية في وقت واحد، ما يؤدي إلى فترات ركود أطول، فبعد عقد من ازدهار سوق العقارات، أصبحت الآن القدرة على تحمل تكاليف الإسكان مرهقة ويمكن أن ترتفع نسب خدمة الديون بشكل حاد».
أدى انهيار سوق الإسكان في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى اندلاع الأزمة المالية وعرقلة الأنظمة المصرفية والحكومات والمستهلكين لسنوات، ولكن لا يتوقع الاقتصاديون انهياراً على غرار عام 2008، فبينما يشدِّد المقرضون المعايير، ما تزال مدخرات الأسر قوية والعديد من البلدان تعاني من نقص في المساكن.
وما زالت أسواق العمل قوية أيضاً، حيث ذكر تولي ماكولي، كبير المسؤولين الاقتصاديين في «سكوتي بنك»، أنّه «سيكون للأسعار المنخفضة تأثير مباشر على الإنفاق الاستهلاكي والاقتصاد بأكمله، إذ تشكِّل العقارات عادة جزءاً كبيراً من ثروة الأُسر. ولكن نظراً لأنَّ ميزانيات الأُسر في العديد من الأسواق الرئيسة ما تزال جيدة، فلا قلق بشأن المخاطر المتعلقة بأسعار المساكن والاقتصاد العالمي».
ومع ذلك، فإنَّ خطر الانخفاض الحادِّ في الأسعار يزداد بوجود تشديدٍ عالميٍّ للسياسة النقدية، حيث رفع ما يزيد على 50 بنكاً مركزياً أسعار الفائدة بما لا يقلُّ عن 50 نقطة أساس دفعة واحدة هذا العام، مع توقُّع المزيد من الزيادات، وفقاً لـ«بلومبيرغ». علماً بأنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة رفع سعر الفائدة الأساسي الأسبوع الماضي بمقدار 75 نقطة أساس، وهي أكبر زيادة منذ عام 1994.
تعدُّ نيوزيلندا والتشيك وأستراليا وكندا من أكثر البلدان المرشحة لمخاطر فقاعة عقارية في العالم، فهي معرَّضة بشكل خاص لهبوط الأسعار، إضافة للنمسا وألمانيا وهولندا. كما أنَّ البرتغال معرضة للخطر بشكل خاص في منطقة اليورو.
وأما في آسيا، تبدو أسعار المنازل في كوريا الجنوبية ضعيفة كذلك، حيث أشارت التقارير إلى المخاطر الناجمة عن ائتمانات الأُسر مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ومعدل نمو ديون الأُسر وسرعة تحقيق المكاسب في أسعار المساكن. وفي أماكن أُخرى من أوروبا، شهدت السويد تحوُّلاً هائلاً في الطلب على الإسكان، ما أثار المخاوف في البلاد حيث تمثل الديون 200% من دخل الأسر.
وذكرت «غولدمان ساكس» في تقرير الأسبوع الماضي أنَّ المؤشرات عن مبيعات المنازل عادةً ما تسبق الأسعار بنحو 6 أشهر، ما يشير إلى احتمالية أن تشهد العديد من البلدان المزيد من الانخفاض في القيم، إذ يشكِّل التباطؤ الكبير في أسواق الإسكان سبباً مهماً وراء تباطؤ الاقتصادات المتقدمة، ويشير التدهور السريع في القدرة على تحمل التكاليف والانخفاض الكبير في مبيعات المنازل إلى أنَّ الهبوط الحاد يمثل خطراً كبيراً، خاصة في نيوزيلندا وكندا وأستراليا.
وذكر مصرف كندا هذا الشهر في مراجعته السنوية للنظام المالي أنَّ المستويات المرتفعة لديون الرهن العقاري تبعث على القلق بالتزامن مع ارتفاع أسعار الفائدة وتعرُّض المزيد من المقترضين لضغوط من أجل دفع الفواتير. فيما ذكر تقرير الاستقرار المالي نصف السنوي لبنك الاحتياطي النيوزيلندي أنَّ التهديد الإجمالي للنظام المالي محدود، ولكن من الممكن حدوث انخفاض «حاد» في أسعار العقارات، ما يمكن أن يقلل بشكل كبير من الثروة ويؤدي إلى انكماش في الإنفاق الاستهلاكي.
وتواجه أسواق العقارات اختباراً حاسماً مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، فإذا تصرَّف محافظو البنوك المركزية بعدوانية مفرطة، يمكنهم زرع بذور الأزمة التالية، وفقاً لـ«بلومبيرغ».
نيوزلندا
أما في نيوزلندا فقد وصل نمو أسعار العقارات إلى مستويات كبيرة عام 2021، مع زيادة سنوية بنحو 30%، ولكن من المرجَّح أن يتغير ذلك بشكل مفاجئ عام 2022.
تغيَّر كل ذلك في شهر أبريل حين اتخَّذ الاحتياطي النيوزيلندي إجراءات لمعالجة التضخم، حيث رفع سعر الفائدة الرسمي بمقدار خمسين نقطة أساس إلى 1.5%، وهي أضخم زيادة منذ 22 عاماً. تبعت ذلك قفزة أُخرى بمقدار 50 نقطة أساس في مايو مع احتمالية وصول الارتفاع إلى ذروته عند نحو 4% العام المُقبل.
يتوقع الاقتصاديون انخفاض أسعار المنازل في نيوزيلندا بنحو 10% هذا العام مع احتمالية انخفاضها لاحقاً بنحو 20% عن الذروة التي بلغتها أواخر عام 2021. بينما يبدو هذا الانخفاض صغيراً بالنسبة للعديد من مالكي المنازل مقارنةً بالمكاسب الهائلة في الأسهم في السنوات الأخيرة، فمن المرجَّح أن توجد آثار أوسع.
تتوقع مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية المحدودة تراجع إنفاق المستهلكين بسبب شعور الناس بالفقر الناتج عن انخفاض أسعار منازلهم وتأثير ارتفاع الأسعار على التدفق النقدي إلى جانب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. كما أشار جارود كير، كبير الاقتصاديين في «كيويبانك» في أوكلاند، إلى وجود «مشترين للمساكن دخلوا السوق العام الماضي بمعدل رهن عقاري قدره 2.5% ثم انتقلوا فجأة إلى معدل بنحو 6%».
كندا
وسجلت كندا أول انخفاض في أسعار المنازل خلال عامين في أبريل وانخفاضاً آخر في مايو. رغم أنَّ ذلك الانخفاض تركز في الأسواق التي شهدت أكبر موجات الجائحة، مثل تورنتو والمناطق المحيطة بها، بدأت الضغوط تطال الأسواق الساخنة سابقاً حول فانكوفر.
كما هي الحال في بلدان أُخرى، فإنَّ الاضطرابات في سوق العقارات في كندا ناتجة عن حملة سياسات متشددة من جانب البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة، إذ ارتفع المؤشر من 0.25% في بداية العام إلى 1.5% اليوم. مع توقع معدلات أعلى، يرى بعض الاقتصاديين أن أسعار العقارات ستنخفض بنحو 20% في الأسواق العقارية الأكثر سخونة.
أمريكا
وفي الولايات المتحدة الأمريكية خفّض نحو 20% من بائعي المنازل الأمريكيين الأسعار خلال الأسابيع الأربعة المنتهية في 22 مايو، وهي أعلى نسبة منذ أكتوبر 2019.
ولكن كانت النسبة أعلى في بعض الأسواق التي أصبحت وجهات ساخنة خلال الوباء للأشخاص الذين يبحثون عن منازل بأسعار معقولة.
أفادت داريل فيرويذر، كبيرة الاقتصاديين في «ريدفين» (Redfin) للخدمات العقارية، بأنَّ البائعين يدركون أنَّ الأسعار قد لا تستمر في الارتفاع بالوتيرة التي كانت عليها سابقاً، حيث يتعرَّض المشترون لضغوط متزايدة، لذا يجب أن تنخفض الأسعار لتتناسب مع الطلب.
بعد الارتفاع بنسبة 18% عام 2021، من المتوقَّع أن تنمو أسعار المنازل في الولايات المتحدة بمعدل أكثر اعتدالاً بنحو 10% عام 2022 و5% عام 2023، وفقاً لشركة الرهن العقاري «فريدي ماك» (Freddie Mac)، حيث أفاد لين كيفر، نائب كبير الاقتصاديين في الشركة، بأنَّ ذلك يُعدُّ «تباطؤاً كبيراً للغاية، ولكنه ناتج عن نمو أسعار المنازل».
كما يرى البعض أنَّ نقص المنازل المعروضة للبيع والطلب من الأشخاص الذين يسعون إلى الحصول على مساحة أكبر، جنباً إلى جنب مع المشترين من جيل الألفية الذين يكبرون في السن ويبدؤون في تكوين الأُسر، يعني أنَّ الأسعار على المستوى الوطني يجب أن تستمر في الارتفاع. ومع ذلك، فإنَّ آثار تباطؤ الطلب تتردد عبر قطاع العقارات، حيث ذكرت شركة «ريدفين» الأسبوع الماضي أنَّها تنوي تسريح بعض الموظفين بعد الفتور في أداء السوق.
التشيك وهنغاريا
أفاد فيت هرادل، خبير اقتصادي في شركة «سايروس» (Cyrrus) الاستثمارية في براغ، بأنَّ جمهورية التشيك تشتهر بارتفاع معدل ملكية المنازل والتضخم السريع وانخفاض معدلات البطالة. إلى جانب نظام تصاريح البناء الفريد والطلب المتزايد من المغتربين الباحثين عن عمل في العاصمة، واجهت البلاد زيادات كبيرة في الأسعار تجاوزت نمو الدخل، حيث ارتفع المؤشر ربع السنوي لأسعار المنازل التشيكية بنسبة 26% في ديسمبر مقارنة بالعام السابق، وفقاً لشركة تحليل البيانات «سي إي آي سي داتا» (CEIC Data) في لندن.
أصبح الفارق بين متوسط دخل المواطن وأسعار العقارات في البلاد من أكثر الفوارق اتساعاً في الاتحاد الأوروبي، ما يثير مخاوف فقاعية عقارية خطيرة.
من أجل كبح التضخم الذي بلغ 16% في شهر مايو، خاض البنك المركزي التشيكي حملة تشديد نقدية رفعت أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1999، قبل اجتماع آخر هذا الأسبوع.
وبدء الناس في البلاد ينظرون إلى العقار على أنَّه تحوُّط ضد التضخم ويفضلون الاستثمار في العقارات بدلاً من الأسهم.
تأتي جمهورية التشيك في المرتبة الثانية في مقياس ترتيب فقاعة الأسعار من «بلومبيرغ إيكونوميكس»، تليها جارتها الإقليمية هنغاريا، حيث ارتفعت الأسعار في هنغاريا بنحو 20% في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2021، مقارنة بالعام السابق، وفقاً لوكالة بيانات الاتحاد الأوروبي «يوروستات». كما فاقمت الحرب في أوكرانيا هذا الحال، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الطاقة والحد من توافر عمال البناء. علماً بأنَّ البنك المركزي رفع سعر الفائدة الأساسي الأسبوع الماضي بشكل غير متوقَّع بمقدار 50 نقطة أساس.
المملكة المتحدة
بدأ سوق الإسكان في المملكة المتحدة في التباطؤ بعد عامين من النمو، حيث أُعفي مشترو المنازل من ضريبة الدمغة على العقارات التي تصل قيمتها إلى 614000 دولار بين يوليو 2020 ويونيو من العام الماضي كجزء من تدابير الجائحة، ما أدى إلى زيادة الأسعار وجعل الإسكان «يبدو منفصلاً عن بقية الاقتصاد»، وفقاً لتوم بيل، رئيس الأبحاث السكنية في المملكة المتحدة في شركة الاستشارات العقارية «نايت فرانك» (Knight Frank).
ورفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة خمس مرات في الأشهر الأخيرة، مع توقُّع المزيد من الارتفاعات. يرى بيل في ذلك ما ينذر ببرودة سوق العقارات لبقية العام، مع توافر المزيد من العرض مع اندفاع مالكي المنازل للتغلب على الانخفاض في القيم.
وانخفض عدد الموافقات على قروض الإسكان الجديدة في المملكة المتحدة إلى أدنى مستوى له منذ نحو عامين. كما انخفضت استفسارات المشترين في مايو بعد ارتفاع دام 8 أشهر متتالية، وفقاً لمسحٍ أجراه المعهد الملكي للمسّاحين القانونيين.
كما ذكرت أنيشا بيفريدج، رئيسة الأبحاث في شركة «هامبتنز إنترناشيونال» للعقارات في المملكة المتحدة، أنَّ "الناس أصبحوا أكثر حذراً تجاه الاقتصاد وكيفية تأثير الحرب في أوكرانيا على الأسعار وارتفاع تكلفة المعيشة. فيما قرَّر بنك إنجلترا هذا الأسبوع إلغاء اختبارات القدرة على تحمل التكاليف، والتي تقيس قدرة المقترضين على سداد قروضهم العقارية، اعتباراً من 1 أغسطس. يمكن لذلك أن يزيد من خطر قيام مشتري المنازل لأوَّل مرة بعمليات شراء لا يستطيعون تحملها.
ومع ذلك، يرى بيل أنَّ الأمور في مناطق مثل لندن تسير بشكل جيد، حيث يتدفق المستثمرون الأجانب إلى الوجهة الدولية، ويعود الطلاب بعد الجائحة. فيما تشهد المدن الثانوية، مثل برمنغهام وليفربول ومانشستر، ارتفاعاً في الأسعار بشكل أسرع مما هي عليه في العاصمة.