الثلاثاء - 08 أبريل 2025
الثلاثاء - 08 أبريل 2025

بيوت جزيرة أبوموسى الطينية شوكة في حلق إيران.. والأهالي: صامدون في أرضنا العربية

لم تعد إيران تتحمل شواهد التاريخ المبنية في جزيرة أبوموسى من الجص والطين وعَرَقِ أهلها الإماراتيين، فسارعت آلياتها، وتحديداً في سبتمبر الماضي، إلى هدم بيوت قديمة عمرها 80 عاماً كان يقطنها سكان الجزيرة الأصليون حتى 4 عقود مضت، وطردت عشرات العمال الذين اتخذوا من تلك البيوت مأوى لهم لاحقاً، وكل هذا بحجة تمديد أنابيب مياه للجزء المحتل من الجزيرة.

وقال إماراتيون وعرب يقطنون في الجزيرة إن ما تفعله طهران في البيوت هو امتداد لمنهج منظم يستهدف طمس الهوية الإماراتية العربية في الجزيرة، بإزالة كل شاهد على الحقيقة وكل ذكرى في تلك البيوت تدحض المزاعم الإيرانية، إضافة إلى مضايقة السكان الأصليين ومحاولة تحييدهم.

وأضاف أحد السكان «تدخلات ومضايقات إيران جزء من حياتنا اليومية، فهنا منعوا ترميم مبانٍ أهلكها الزمن، أو حتى الحصول على تصاريح لجلب غذاء وسلع وأثاث وأدوات ومواد بناء من خارج الجزيرة، وفي أحدث حلقات هذا المسلسل بدؤوا يهدمون البيوت القديمة التي كان يقطنها العرب، مقابل تبريرات واهية، وكأنها شوكة في حلقهم يريدون نزعها».

شهادات حية قدمها سكان إماراتيون وعرب في الجزيرة لـ«الرؤية» تعمدنا إخفاء أسمائهم الحقيقية حرصاً على سلامتهم، بعد أن التقتهم الصحيفة خلال زياراتهم للوطن الأم بهدف تسليط الضوء على صمودهم الاستثنائي أمام مضايقات السلطات الإيرانية في جلب احتياجاتهم الأساسية، ومنعهم من البناء، وحتى حرمانهم من دفن موتاهم «في تراب الجزيرة»، ورغم كل ذلك يظهرون كل الإصرار والعزيمة المستندة إلى عمر وذكريات وعروبة وأمل مؤجل يعيش لكي يثبت للعالم أن محاولات طمس التاريخ المستمرة لن تنال من عروبة «أبوموسى» وستظل عربية الهوية والوجه واليد واللسان، صامدة حتى عودة الحق إلى أصحابه.




سبتمبر 2019

بدأت قصة هدم البيوت القديمة، وفقاً لما ذكر شاهد عيان على الحدث، باقتحام آليات ومعدات الهدم منطقة «الفريج القديم»، وهو حي كان يقطنه الإماراتيون والعرب من الجزيرة وحالياً يتواجد فيه عمال آسيويون، وأضاف: «كان على العمال أن يغادروا فوراً، فهذا قرار الـ«فرمندار» وهو مسؤول السلطة العسكرية في الجزيرة، لذلك لم يكن بمقدورهم التحاور مع الرجل الإيراني الذي يطبق القرار ويرتدي زياً عسكرياً».

وأكد لـ«الرؤية» شاهد العيان أن هذه البيوت تركها أهلها كونها قديمة وسكنها بعدهم عمال آسيويون يعملون في منشآت وأعمال مختلفة، إلا أنهم اضطروا وبشكل مفاجئ لترك المكان والمغادرة. وتمكن الشاهد من توثيق عملية الهدم بهاتفه النقال عبر مقطع فيديو ـ حصلت «الرؤية» على نسخة منه.

وأوضح أن الجزيرة تنقسم إلى جزأين، بينهما فواصل وأسلاك شائكة، الأول يسكنه مئات الإيرانيين، تسلموا منازل جديدة، مشيدة بمواد بناء صلبة، دون حاجة للـ«مجاوزات» ـ وهي كلمة فارسية تعني تصاريح - عكس ما يحدث مع الإماراتيين والعرب الذين يحتاجون إلى تصاريح لجلب مواد البناء.

وتابع: «أما سكان الجزيرة الإماراتيون والعرب ممن ارتبطت أرزاقهم بالمنطقة، ويعملون في وظائف تعليمية وطبية وصولاً إلى العمالة البسيطة، فيشغلون ما نسبته نحو 15% من المساحة الكلية للجزيرة فقط».



طمس الهوية

بدوره، قال محمد علي أحد سكان أبوموسى: «الجزء الذي يقطنه الإماراتيون والعرب في الجزيرة يتكون حالياً من حيّين سكنيين، هما القديم المكون من 200 بيت يعود تاريخ إنشائها لأكثر من 80 عاماً، وهي شاهدة على عروبة المكان بناها سكان الجزيرة الأصليون من الجص والطين، ونظراً لعدم سماح السلطات الإيرانية المحتلة بترميمها وصيانتها أصبحت غير صالحة للسكن فهجرها أصحابها وانتقلوا للحي الجديد قبل نحو 35 عاماً، فيما بدأت السلطات الإيرانية في سبتمبر الماضي هدم هذه البيوت بعد أن طردوا العمال الآسيويين الذين كانوا يقيمون في عدد منها، وذلك بحجة تمديد أنابيب مياه للجزء الإيراني، بينما تتركز أهدافهم الخفية في طمس الهوية التاريخية للجزيرة، فكيف لا يسمحون لنا بترميمها والسكن فيها، ومن ثم يقررون هم هدمها؟».

وتابع: «الحي الجديد يقيم فيه سكان الجزيرة الإماراتيون، ومعظمهم من الأطفال وكبار السن يعيشون في نحو 13 بيتاً وفرتها لهم حكومة الإمارات، جدرانها وأسقفها مسبقة الصنع. وفي ظل نقص الصيانة بسبب العراقيل الإيرانية، تسمح الأسقف أحياناً بتسرب المياه عند سقوط الأمطار بشدة، وتتلف محتويات المنزل من مواد غذائية وأثاث وأجهزة كهربائية، ما يضطر أصحابها لعرضها أياماً متواصلة تحت أشعة الشمس لعدم قدرتهم على توفير بدائل».

وأضاف أن الإجراءات المشددة المفروضة من السلطات الإيرانية على السكان تقيّد حصولهم على التصاريح أو «المجاوزات» حال طلبهم إدخال سلع أو أغراض أساسية للجزيرة مثل ملابس أو أثاث أو حتى مواد بناء لترميم بيوتهم القديمة، وذلك أثناء رحلاتهم البحرية الأسبوعية للوطن الأم عبر «خاطر»، وهي عبّارة نقل أفراد صغيرة وفرتها سلطات الإمارات لسكان أبوموسى، تبحر مرتين أسبوعياً من وإلى الجزيرة، محملة بقليل من الزاد والطعام والاحتياجات الأسبوعية، «وكثير من الآلام الحاضرة في الأذهان والأحلام المؤجلة».

ولفت إلى أن طلب إذن دخول البضاعة يقدم لمكتب السلطات الإيرانية ويستغرق الحصول على الموافقة أسابيع متواصلة، ولا يحصل مقدم الطلب على موافقة رغم صلاحية البضاعة المطلوب جلبها، مؤكداً أن سلطات الاحتلال الإيراني تسعى باستمرار إلى تضييق الخناق على السكان الأصليين للجزيرة بهدف إقصائهم وتهجيرهم منها.

وأقامت سلطات الاحتلال مركزاً يسمى «الرئاسة الإيرانية» أو «الفرمندارية» وهو عبارة عن مبنى لمركز السلطات الإيرانية المتواجدة في الجزيرة يديره ممثل الإيرانيين، (الفرمندار) ويكون مسؤولاً عن شؤون سكان الجزيرة الإماراتيين والعرب، في حين توجد بالمبنى ذاته مكاتب لإدارة شؤون السكان الإيرانيين الذين جلبتهم سلطات بلدهم ومنحتهم رواتب شهرية وامتيازات عدة كالإعفاء من رسوم الجمارك، علاوة على منحهم بيوتاً في الجزء المحتل من «أبوموسى» وتفصله عشرات الحواجز الحديدية الشائكة.

مرابطون بالأرض

سافر محمد علي بذاكرته للحظات مستدعياً الصور القديمة وقال: «منذ أن تلمست خطواتنا الأولى تراب «أبوموسى» ونحن نشاهد محاولات السلطات الإيرانية المحتلة لدفع السكان الأصليين إلى الرحيل منها بلا عودة، عبر منع تأسيس أي مشروع تجاري على الجزيرة وعدم توفير فرص عمل لخريجي الثانوية العامة وعدم سماحهم لسكانها الأصليين بالعودة إليها في حال غادروها لأكثر من 6 أشهر، وفي حال تزوج أحد السكان بأكثر من زوجة لا يسمحون إلا لزوجة واحدة فقط بدخول الجزيرة».

وتابع: «خلف امتدادات البحر الشاسعة ترقد قطعة صغيرة من اليابسة لا تتعدى مساحتها 20 كيلومتراً مربعاً اسمها جزيرة «أبوموسى»، تعني لنا المستقر والمقام الذي لن نبرحه حتى آخر رمق في حياتنا، سنبقى مخلصين للأرض التي علمتنا حب الترابط.. مخلصين للشواطئ التي منحتنا الخير الوفير، فما يربطنا بالأرض عمر من ذكريات الطفولة والشباب التي ستبقى محفوظة في نفوسنا وستعجز يد الاحتلال أن تطالها أو أن تطمس عروبتنا، على الرغم من أنهم يرغموننا على التحدث بلغتهم عند التقدم لتخليص معاملة أو طلب تصريح، وفي المقابل يرفضون التحدث بالعربية التي يتقنونها جيداً، لكننا نصر على التعامل بلغتنا لأن «أبوموسى» ستظل عربية.

واختتم كلامه بنبرة تحدٍّ: «لن نستسلم، سنظل متجذرين بأرضنا.. صامدين أمام كافة التحديات.. فيوماً ما سيعود الراحلون وستتكاتف الأيدي لتعمر الأرض.. وسيعلو صوت الحق، وسينطق التاريخ بكلمة الفصل المبين».

طائرات وسفن

وقالت «أم غانم السويدي» (74 عاماً) إحدى السكان: «كان عدد سكان الجزيرة وقت الاحتلال يزيد على ألفي شخص يعمل معظمهم في صيد الأسماك وتربية الماشية، وفي يوم الاحتلال كنا نترقب بشغف الإعلان عن اتحاد الإمارات، حين تفاجأنا في فجر يوم 30 نوفمبر 1971 بطائرات حربية فوق سماء الجزيرة وعلى مقربة من سطوح بيوتنا»، مشيرة إلى أنها كانت تحلب الأغنام داخل الحظيرة حين سمعت ضجيجاً غير معتاد يسود المكان، فهرعت مسرعة باتجاه البيوت لاستطلاع الأمر فوجدت سفناً حربية تحمل جنوداً وتتقدم صوب الجزيرة، وبسرعة البرق ترجل منها مئات العسكريين الذين كانوا يرتدون زياً أخضر اللون ثم نادوا بواسطة مكبرات الصوت السكان طالبين منهم التجمع في مكان واحد».

وتابعت «أشرقت شمس ذلك اليوم لكننا لم نستوعب كم من الوقت مرّ على دخول الغرباء لجزيرتنا، إذ فقدنا الإحساس بعنصر الزمن، على الرغم من أننا أجبرنا على التجمع في ساحة رملية مترامية الأطراف، ليتسنى لهم تفتيش بيوتنا ومسح المنطقة بأكملها».

أطلقت من بين أضلعها زفرة حادة قبل أن تكمل حديثها: «في تلك اللحظات كنت أشق جموع الناس بحثاً عن طفلي الذي ضاع، لأجده ممسكاً بيد امرأة أخرى وعلى الفور سحبته باتجاهي، وأثناء سيري بين الصفوف لاحظت أن الجميع كانوا في حالة ترقب، إذ تداخلت أصواتهم وشخصت أبصارهم، وبعد ساعات قليلة أدركنا أن ما حدث هو احتلال من جانب إيران لـ «أبوموسى»، في حين رفض معظم السكان الإقرار بذلك رغم تعهد قادة الجيش الإيراني الذين أقسموا على القرآن الكريم بأنهم سيبقون فترة مؤقتة بحكم ما قالوا إنها مذكرة تفاهم مع حكومة الشارقة وبحضور المتعهد الإيراني. وما هي إلا أيام قليلة حتى حملت الكثير من صديقاتي وجاراتي مصوغاتهن الذهبية ورحلن مع أسرهن لإمارة الشارقة إلا أنني قطعت على نفسي عهداً بألا أفارق أرضي ما حييت».



صدقنا وكذب المحتلون

وتابعت «أم غانم»: «صدق إحساسنا وكذب المحتلون.. لم يغادروا بل كانوا يؤكدون لنا كل يوم أن بقاءهم لا نهاية له، فازدادت توسعاتهم في الجزء الشمالي من الجزيرة، ثم أخذوا يضايقوننا ويتدخلون في تفاصيل حياتنا اليومية، ولا يسمحون لنا برفع علم الإمارات في أي مكان بـ«أبوموسى»، وأضحينا لا نملك من أساسيات الحياة سوى مدرسة واحدة يسعى الاحتلال لتحجيم الخدمات التعليمية التي تقدمها للأهالي كونها أحد الأسباب الرئيسة التي تتيح للسكان البقاء، ولا يسمحون لنا في المناسبات الوطنية برفع العلم أعلى من مستوى جدار المدرسة كما يمنعون استخدام مكبرات الصوت عند تشغيل الأغاني الوطنية، فضلاً عن أنهم رفضوا أخيراً استقدام معلمين جدد للمدرسة بدلاً من الذين تعدت أعمارهم الـ60 عاماً، مع إعطاء الموجودين حرية استمرارهم في العمل أو إنهاء خدماتهم دون توفير بدائل لهم، مشيرة إلى أنه حتى الخدمات الطبية تقتصر اليوم على عيادة صغيرة أقصى ما تقدمه الإسعافات الأولية للجروح والإصابات البسيطة، أما النساء فيتوجهن في الشهر الأخير من حملهن عبر البحر للوطن الأم والإقامة في أحد فنادقها لمدة شهر لحين الولادة بأحد المستشفيات، ما يكبدهن تكاليف مالية كبيرة».

وأكدت بكلمات تدل على الإصرار «ما زلت وفية للعهد الذي قطعته على نفسي قبل نحو 48 عاماً حين كان عمري لا يتجاوز 27 عاماً، بأنني لن أغادر هذه الأرض المعطاءة التي أحمل لها في قلبي كل حب وتقدير، فبعد وفاة زوجي وتوجه أبنائي الثلاثة للعمل بإمارة أبوظبي قررت أن أموت فوق هذه الأرض وأنا أحتضن ترابها الغالي، فمهما سعى المحتلون لنزع الهوية العربية للجزيرة فلن يتمكنوا من نزع حبها من قلوبنا التي ستبقى معلقة بذكريات ماضيها الجميل، وبأمل أن يعود الحق لأصحابه».