ربما يكون علم الرياضيات العلم الوحيد بين سائر العلوم الذي ظل دون انقطاع طوال تاريخه، ولا ينافسه في ذلك إلا علم الفلك، فكلاهما يرجع في تاريخه إلى عصر البابليين. ولدت الرياضيات من رحم محاولات نمذجة «modeling» العالم الحقيقي، وذلك لعد الأيام المنقضية، وقياس مساحات الحقول، وحساب الضرائب المستحقة للملك.
وشهد علم الفلك ثورات أطيح فيها بأفكار قديمة لتحل محلها أفكار جديدة مختلفة اختلافاً جذرياً. ففي 1877 مثلاً، رصد الفلكي الإيطالي جيوفاني إسكيابارلي ( Giovanni Schiaparelli ) ممرات على المريخ، وسرعان ما أدى الخطأ في ترجمة هذه الملاحظة على أنها قنوات إلى اعتقاد شائع ــــــ حتى بين الفلكيين ــــــ بأن المريخ كوكب مأهول بكائنات ذكية. أما الآن فلدينا معلومات أدق.
وقيل كثيراً إن الرياضيات لا يمكنها أن تشهد أية ثورة؛ لأن طبيعة الحقيقة الرياضية لا تتغير. ولكن المواقف البشرية تتغير، وإحدى كبرى الثورات في علم الرياضيات المراجعة الشاملة لمفهوم “الحقيقة“ (Truth) الرياضية. فبفضل كورت جوديل ( Kurt Gödel) وألان تورنج (Alan Turning ) ندرك الآن أن الحقيقة الرياضية نفسها ليست مطلقة.
ستشهد السنوات الثلاثون المقبلة العديد من الثورات الكبرى في الرياضيات، بعضها في الطريق فعلاً، كالتأثير المتزايد للكمبيوتر، والتحديات الجديدة التي تطرحها العلوم البيولوجية والقطاع المالي. وستكون هناك أخريات، ولكن التنبؤ الوحيد المأمون هو أن كثيراً منها سيكون من النوع الذي لا يمكن التنبؤ به.
فالعديد من المعلقين تنبؤوا بتغير في فكرة البرهان ذاتها، وهو المفهوم المحوري للرياضيات ويقول بعضهم إن الكمبيوتر سيتمخض عن مراجعة أصولية لمفهوم البرهان، ويقول آخرون إن المفهوم سيندثر تماماً. وكلا هذين الرأيين يستند إلى سوء فهم للاتجاهات الحالية. فالبراهين في الرياضيات بديل للمشاهدات والتجارب في بقية العلوم، بمعنى أنها الوسيلة التي يتجنب بواسطتها ممارسوها الانحراف عن غاياتهم بفعل ذكائهم، وتصديق أشياء على أنها حقيقية؛ لأن البشر يودون أن تكون حقيقية.
فلا يغني الكمبيوتر عن الحاجة إلى البرهان أكثر مما يغني المكروسكوب عن الحاجة إلى التجربة في علم الأحياء. وكما نرى في هذا التشبيه الأحيائي، فإن الكمبيوتر غير طرق البرهان وحسنها، ولكنه لم يبدل الفلسفة الأساسية، وهي أن البرهان قصة مترابطة منطقية تستنبط مبرهَنات من أخرى موجودة بأسلوب يمكنه أن يصمد لأدق التمحيص من جانب الخبراء المتشككين. وسوف يبقى مفهوم البرهان والاعتقاد ضرورياً للمؤسسة الرياضية خلال الـ30 المقبلة دون مساس.
وتستمد الرياضيات قوتها من ائتلاف مصدرين مختلفين، أحدهما “العالم الحقيقي“ (real world). فقد علمنا كبلر وجاليليو ونيوتن وآخرون أن كثيراً من جوانب الكون الخارجي يمكن فهمها باعتبارها نتاج قواعد رياضية بسيطة، وإن كانت مراوغة، هي «قوانين الطبيعة». ومن حين لآخر يراجع الفيزيائيون صياغاتهم لهذه القوانين. فالميكانيكا النيوتنية تفسح الطريق لميكانيكا الكم والنسبية العامة، وميكانيكا الكم تفسح الطريق لنظرية المجال الكمي (Quantum Field Theory). كما تشير الجاذبية الكمية ( Quantum Gravity) والأوتار الفائقة (Superstrings) في اتجاه مراجعة مستقبلية.
فمشكلات العالم الحقيقي تدفع إلى ابتكار رياضيات جديدة، والرياضيات عادة ما تبقى، وتستمر أهميتها حتى عندما تتغير النظرية التي تمخضت عنها.