2021-03-11
زينة يكن باحثة وكاتبة سورية مقيمة في الإمارات
بينما كنت جالسة على شاطئ البحر، مرت أمامي شابة شقراء برفقة صديقها، كان يبدو أنهما يستعدان لجلسة تصويرية في المساء على ضوء القمر، وهو يحمل بيده «اللايت رينغ» أو ما يسمى «الحلقة الضوئية» التي يستخدمها مصورو إنستغرام لرفع جودة الصورة.
كان غريباً تفاوت ملامح الفتاة أمام العدسة وخلفها، فقد كانت تظهر نفسها أمام الكاميرا، واثقة الخطى، غير مبالية، غير مكترثة، محبة للحياة، ترقص وتغني وكأنها تعمل على مقولة: «أنا ومن بعدي الطوفان».
بينما الحقيقة كانت، في كل مرة تصور فيها مقطعاً، تتغير ملامحها أثناء مراجعة الصور على كاميرا هاتفها التي يصور بها صديقها، وتبدي استياء كبيراً في كل مرة لا تعجبها صورتها، أو غير راضية عن الوضعية التي اتّخذتها أثناء التصوير.
وكان تجلس أمامي على خطّ مستقيم على الرمل عائلة هندية حميمة مكونة من الأب والأم والجد والحفيدات، كلهم في تأمل لتلك الفتاة، يتحدثون بلغتهم وكأن لسان حالهم يقول: ما أعجبها! كم لديها القدرة على التأقلم بين عالمين مختلفين شاسعين، تفصل بينهما لحظات بل ثوانٍ.
عدت بتأملاتي سنة إلى الوراء، فمع بداية الجائحة التي ألمّت بنا في مثل تلك الأيام من العام الماضي، والحجر المنزلي الذي أقعد العالم بأسره في منازله، حيث لم تنقطع التفسيرات والتحليلات والتقويمات التي كان يتنبأ بها العامّة قبل الخبراء، عمّا قبل كورونا وما بعدها، نتيجة المصاب الذي أصاب العديد منّا، فهناك من فقد عزيزاً أو عملاً أو بلداً، وتغيرت حياته.
سنة من الحجر المنزلي المتقطع، كانت كافية لتجرف الناس، وبإرادتهم، إلى الجموح المطلق، إلى تفجير طاقاتهم الكامنة، إلى تغيير معتقداتهم الراسخة، إلى قلب أسلوب حياتهم رأساً على عقب، إلى حجز أماكن لهم على المنصات الافتراضية «المشبعة» ـ وإن لم يجدوا لهم مقعداً ـ خوفاً من العزلة في عالم الحقيقة.
لقد نجح العالم الافتراضي في التحكم بالبشر دون رحمة، واستطاع فرض هيبة على الإنسان، والتلاعب بقيمه، وجعله يصدق أنه لا يساوي شيئاً سوى صورة بروفايله.
بات الناس يرسخّون صورهم الافتراضية مع «الفلتر» في أذهانهم، لدرجة أنه لم يعد بمقدورهم تقبل صورهم الحقيقية عبر النظر إلى المرآة.
ولكن ما هو العالم الافتراضي؟.. إنه تلك اللوغاريثمات الشرسة التي طورها التقنيّون لتصبح خارج نطاق السيطرة والضبط، وباتت هي من تفرض شروطها علينا.. هي تلك اللوغاريثمات التي نجحت في إيجاد عالم مختلف تماماً عن العالم الواقعي الذي كان يتسع بطبيعة الحال للجميع، أصبح من يتمسك بواقعه يطلق عليه «أخلاقي» وهو لا نيّة له سوى العيش في الحقيقة وليس في الوهم.
شخصيّاً، أنادي بالتطور والتعلم والتقدم، فما هي الحياة إن لم تكن تغييراً؟!، لكني أجد من الضروري تصحيح بعض المفاهيم التي اقتحمت حياتنا بتطرّف، وتريد فرض عالم السلع «أحادي القطب» عبر تدمير منظومات عوالم الحقيقة والقيم «المتعددة الأقطاب».
لا يجوز السكوت عمن يعتبر نفسه قد أحدث تغييراً في مفهوم الذات، وبات قادراً على إقناع الناس بأنهم مجرد «تعليقات» سيتم حذفها إن لم ترقَ لرغبة المتلقي، ولا يجوز السكوت عمن يقنع الناس بضرورة التواجد في الازدحام لإضفاء الطمأنينة والسكينة.. الازدحام متعب إن لم يكن له هدف، والتفرد مطلوب إن كان غرضه الصفاء.
الوحدة لا تعني العزلة بالضرورة.. يجب ألا نخشى منها إن كان الازدحام أكثر ضرراً علينا.. لا يجوز أن يكون الأضداد لمفهوم «لا أحد» هو «أي أحد».. يجب أن تبقى لدى الإنسان القدرة على الاختيار.. القدرة على التفكير، بل أن يكون حراً في تفكيره وخياله دون أن يكون منساقاً.
إذا ما استمر العالم بالانجراف في هذا التيار، فإننا سنعد أيّامنا للعودة إلى الجاهلية، إذ ما نشهده ليس تطوّراً بل غرقاً في عالم من الأصنام، التي لا تختلف في شيء عن الأصنام التي كانت تعبد في زمن قريش، سوى أنها اليوم رقمية وفي ذاك المضي البعيد حجريّة.
بينما كنت جالسة على شاطئ البحر، مرت أمامي شابة شقراء برفقة صديقها، كان يبدو أنهما يستعدان لجلسة تصويرية في المساء على ضوء القمر، وهو يحمل بيده «اللايت رينغ» أو ما يسمى «الحلقة الضوئية» التي يستخدمها مصورو إنستغرام لرفع جودة الصورة.
كان غريباً تفاوت ملامح الفتاة أمام العدسة وخلفها، فقد كانت تظهر نفسها أمام الكاميرا، واثقة الخطى، غير مبالية، غير مكترثة، محبة للحياة، ترقص وتغني وكأنها تعمل على مقولة: «أنا ومن بعدي الطوفان».
بينما الحقيقة كانت، في كل مرة تصور فيها مقطعاً، تتغير ملامحها أثناء مراجعة الصور على كاميرا هاتفها التي يصور بها صديقها، وتبدي استياء كبيراً في كل مرة لا تعجبها صورتها، أو غير راضية عن الوضعية التي اتّخذتها أثناء التصوير.
وكان تجلس أمامي على خطّ مستقيم على الرمل عائلة هندية حميمة مكونة من الأب والأم والجد والحفيدات، كلهم في تأمل لتلك الفتاة، يتحدثون بلغتهم وكأن لسان حالهم يقول: ما أعجبها! كم لديها القدرة على التأقلم بين عالمين مختلفين شاسعين، تفصل بينهما لحظات بل ثوانٍ.
عدت بتأملاتي سنة إلى الوراء، فمع بداية الجائحة التي ألمّت بنا في مثل تلك الأيام من العام الماضي، والحجر المنزلي الذي أقعد العالم بأسره في منازله، حيث لم تنقطع التفسيرات والتحليلات والتقويمات التي كان يتنبأ بها العامّة قبل الخبراء، عمّا قبل كورونا وما بعدها، نتيجة المصاب الذي أصاب العديد منّا، فهناك من فقد عزيزاً أو عملاً أو بلداً، وتغيرت حياته.
سنة من الحجر المنزلي المتقطع، كانت كافية لتجرف الناس، وبإرادتهم، إلى الجموح المطلق، إلى تفجير طاقاتهم الكامنة، إلى تغيير معتقداتهم الراسخة، إلى قلب أسلوب حياتهم رأساً على عقب، إلى حجز أماكن لهم على المنصات الافتراضية «المشبعة» ـ وإن لم يجدوا لهم مقعداً ـ خوفاً من العزلة في عالم الحقيقة.
لقد نجح العالم الافتراضي في التحكم بالبشر دون رحمة، واستطاع فرض هيبة على الإنسان، والتلاعب بقيمه، وجعله يصدق أنه لا يساوي شيئاً سوى صورة بروفايله.
بات الناس يرسخّون صورهم الافتراضية مع «الفلتر» في أذهانهم، لدرجة أنه لم يعد بمقدورهم تقبل صورهم الحقيقية عبر النظر إلى المرآة.
ولكن ما هو العالم الافتراضي؟.. إنه تلك اللوغاريثمات الشرسة التي طورها التقنيّون لتصبح خارج نطاق السيطرة والضبط، وباتت هي من تفرض شروطها علينا.. هي تلك اللوغاريثمات التي نجحت في إيجاد عالم مختلف تماماً عن العالم الواقعي الذي كان يتسع بطبيعة الحال للجميع، أصبح من يتمسك بواقعه يطلق عليه «أخلاقي» وهو لا نيّة له سوى العيش في الحقيقة وليس في الوهم.
شخصيّاً، أنادي بالتطور والتعلم والتقدم، فما هي الحياة إن لم تكن تغييراً؟!، لكني أجد من الضروري تصحيح بعض المفاهيم التي اقتحمت حياتنا بتطرّف، وتريد فرض عالم السلع «أحادي القطب» عبر تدمير منظومات عوالم الحقيقة والقيم «المتعددة الأقطاب».
لا يجوز السكوت عمن يعتبر نفسه قد أحدث تغييراً في مفهوم الذات، وبات قادراً على إقناع الناس بأنهم مجرد «تعليقات» سيتم حذفها إن لم ترقَ لرغبة المتلقي، ولا يجوز السكوت عمن يقنع الناس بضرورة التواجد في الازدحام لإضفاء الطمأنينة والسكينة.. الازدحام متعب إن لم يكن له هدف، والتفرد مطلوب إن كان غرضه الصفاء.
الوحدة لا تعني العزلة بالضرورة.. يجب ألا نخشى منها إن كان الازدحام أكثر ضرراً علينا.. لا يجوز أن يكون الأضداد لمفهوم «لا أحد» هو «أي أحد».. يجب أن تبقى لدى الإنسان القدرة على الاختيار.. القدرة على التفكير، بل أن يكون حراً في تفكيره وخياله دون أن يكون منساقاً.
إذا ما استمر العالم بالانجراف في هذا التيار، فإننا سنعد أيّامنا للعودة إلى الجاهلية، إذ ما نشهده ليس تطوّراً بل غرقاً في عالم من الأصنام، التي لا تختلف في شيء عن الأصنام التي كانت تعبد في زمن قريش، سوى أنها اليوم رقمية وفي ذاك المضي البعيد حجريّة.