2019-09-16
يوسف أيت بابا ـ تمكروت*
في جو تخفي فيه سحب الدخان زرقة السماء، يجلس أبناء حرفة الفخار القرفصاء بالقرب من فوهة الفرن أو ما يطلق عليه بالأمازيغية «تَافرَانْت» بالحطب والنباتات الشوكية التي يطلق عليها محلياً اسم «شِّيعْكو» وسعف النخيل، حتى إن بدا المشهد صعباً لمن تطأ قدماه للمرة الأولى معمل الفخار الواقع في قرية تمكروت، إلا أنه لا يمكن للحرفيين الاستغناء عن هذه المرحلة التي تصل فيها حرارة المكان إلى ألف درجة مئوية.
ورغم صعوبة الظروف التي تحيط بهذه الحرفة إلا أن حرفيي الفخار في القرية العريقة الواقعة في الجنوب الشرقي للمملكة المغربية، بالقرب من مدينة زاكورة، لا يبخلون قيد أنملة بالتفنن في صناعة أوان خزفية تكسوها ألوان خضراء بهية.
ورغم مرور خمسة قرون على امتهان أهالي قرية تمكروت حرفة الفخار التقليدي، إلا أن هذه الصنعة تأبى الاندثار وتصارع للبقاء في وجه التكنولوجيات الحديثة التي دخلت مناحي الحياة كافة، ومع ذلك فإن فخّاري القرية رغم شكواهم والتعب الذي ينتابهم من طول مراحل التصنيع نجدهم يبدعون، يناضلون، يستمتعون، يمرحون في سبيل أن تحيا حرفة الأجداد.
عزف الهراوة
وتسبق مرحلة الجلوس بالقرب من فوهة جهنم (فوهة الفرن) سلسلة من الخطوات المرهقة بالنسبة لحرفيي تمكروت، حيث تكون البداية برحلة البحث عن التربة أو الطين، والتي يقطع فيها الحرفيون من أربعة إلى خمسة كيلومترات على الدواب في اتجاه الحقول.
ويحتاج الحصول على المادة الأولية الحفر بأدوات تقليدية لا تتجاوز المعاول والفؤوس لعمق يبلغ ثلاثة أو أربعة أمتار، تحملها سواعد قوية وسط حرارة الشمس الحارقة، ليتكلل المجهود بالعودة إلى المعمل بـ «بِتَلِيغْت» كما يسميه الفخاريون، وهو النوع المستخدم في تشكيل منتجاتهم الخزفية.
وسط باحة المعمل، يكاد عزف الهراوة لا يتوقف إلا عندما تتحول التربة إلى جزيئات صغيرة الحجم لتسهيل انصهارها وتحللها داخل حفر مليئة بالمياه يبلغ عمقها متراً واحداً.
تحفة معمارية
على الجانب الأيسر لمعمل الفخار في تمكروت، ترسم أبواب الورش الخشبية المتتابعة صورة معمارية لا شبيه لها بالمنطقة، كلما اقتربت منها تسمع دوران آلة خشبية تسمى «اللولب» تحركها قدما الحرفي من الأسفل وتتبعها أنامله المتسخة من الأعلى، لتشكل من الطين تحفاً فنية من الخزف.
وتحتاج هذه التحف فقط إلى 24 ساعة في الظل حتى يجف الطين ويحافظ على تماسكه قبل وضع آخر اللمسات المهنية لتصميم وتشكيل قعور وحافات المنتجات بالآلة نفسها.
بعدها تتعرض المنتجات لأشعة الشمس قرابة ثلاثة أيام أو خمسة حتى تجف وتصبح صلبة، ليجري طلاؤها بخليط أسود مكون من «الحريرة المسوسة»
و«تافزا» أو «الحجرة الميتة» بتعبير أهل الحرفة، وهو نوع من الصخور الكلسية المسؤولة عن اللمعان نظراً لثرائها بحبيبات زجاجية، وفقاً للحرفي رضوان لخضر.
وأشار لخضر إلى أن معدن الكحل ومسحوق النحاس يدخلان ضمن هذا الخليط، فالأول يمنح المنتج ملمساً ناعماً فيما يكسوه الثاني باللون الأخضر الذي يتميز به فخار تمكروت عن سائر المناطق الأخرى في المغرب.
وذكر الحرفي المغربي أن مكونات الخليط تتفاعل عندما تتعرض الأواني لدرجة حرارة تتراوح من 900 إلى 1000 درجة مئوية داخل أفران تقليدية يوضع في طبقتها العليا كل ما تجود به أيادي الفخاريين من أوان خزفية وقرمود وزليج بلدي بعناية لا تحتمل الخطأ، أما الطبقة السفلى للفرن فهي خاصة بالتدفئة وإشعال لهيب النيران الذي يخترق الثقوب الجامعة بين الطبقتين.
غزو الآلة
لم تشفع الشهرة الواسعة لفخار تمكروت، حيث يعاني عدة مشاكل تهدد بقاءه على خريطة الصناعة التقليدية بالمغرب، ويرجع هذا التهديد، حسب لخضر، إلى منافسة وغزو الآلة التي أنتجت الأواني الزجاجية والبلاستيكية ثم المعدنية للأسواق المغربية التي تطورت بشكل سريع.
وأكد حرفيون في قرية تمكروت أن الموقع الجغرافي للمنطقة رغم تاريخها العريق لا يساعد على الانفتاح على أسواق جديدة، فضلاً عن بعد القرية عن المدن والمراكز ذات الطابع السياحي كمدينة مراكش وأكادير المغربية، داعين إلى تسليط الضوء إعلامياً على هذا النوع من الحرف.
وعزا الحرفي عبدالحق داني هذه المشاكل إلى غياب التعاون بين الحرفيين، كما أن هذه الحرفة لم تعد تدخل ضمن اهتمامات الفئة الشابة التي أصبحت تفكر في توجهات أخرى، ما يهدد مستقبلها بعد أن صمدت خمسة قرون.
ويرى داني أن الحل يكمن في تقديم الدعم المادي والمعنوي من مختلف الفاعلين والمعنيين للمحافظة على هذا التراث العريق، مشيراً إلى أن الحكومة المغربية شيدت قرية الفخار في القرية إلا أنها لم تطلق شرارة انطلاقها.
*مشارك في برنامج القيادات الإعلامية العربية ـ المغرب
في جو تخفي فيه سحب الدخان زرقة السماء، يجلس أبناء حرفة الفخار القرفصاء بالقرب من فوهة الفرن أو ما يطلق عليه بالأمازيغية «تَافرَانْت» بالحطب والنباتات الشوكية التي يطلق عليها محلياً اسم «شِّيعْكو» وسعف النخيل، حتى إن بدا المشهد صعباً لمن تطأ قدماه للمرة الأولى معمل الفخار الواقع في قرية تمكروت، إلا أنه لا يمكن للحرفيين الاستغناء عن هذه المرحلة التي تصل فيها حرارة المكان إلى ألف درجة مئوية.
ورغم صعوبة الظروف التي تحيط بهذه الحرفة إلا أن حرفيي الفخار في القرية العريقة الواقعة في الجنوب الشرقي للمملكة المغربية، بالقرب من مدينة زاكورة، لا يبخلون قيد أنملة بالتفنن في صناعة أوان خزفية تكسوها ألوان خضراء بهية.
ورغم مرور خمسة قرون على امتهان أهالي قرية تمكروت حرفة الفخار التقليدي، إلا أن هذه الصنعة تأبى الاندثار وتصارع للبقاء في وجه التكنولوجيات الحديثة التي دخلت مناحي الحياة كافة، ومع ذلك فإن فخّاري القرية رغم شكواهم والتعب الذي ينتابهم من طول مراحل التصنيع نجدهم يبدعون، يناضلون، يستمتعون، يمرحون في سبيل أن تحيا حرفة الأجداد.
عزف الهراوة
وتسبق مرحلة الجلوس بالقرب من فوهة جهنم (فوهة الفرن) سلسلة من الخطوات المرهقة بالنسبة لحرفيي تمكروت، حيث تكون البداية برحلة البحث عن التربة أو الطين، والتي يقطع فيها الحرفيون من أربعة إلى خمسة كيلومترات على الدواب في اتجاه الحقول.
ويحتاج الحصول على المادة الأولية الحفر بأدوات تقليدية لا تتجاوز المعاول والفؤوس لعمق يبلغ ثلاثة أو أربعة أمتار، تحملها سواعد قوية وسط حرارة الشمس الحارقة، ليتكلل المجهود بالعودة إلى المعمل بـ «بِتَلِيغْت» كما يسميه الفخاريون، وهو النوع المستخدم في تشكيل منتجاتهم الخزفية.
وسط باحة المعمل، يكاد عزف الهراوة لا يتوقف إلا عندما تتحول التربة إلى جزيئات صغيرة الحجم لتسهيل انصهارها وتحللها داخل حفر مليئة بالمياه يبلغ عمقها متراً واحداً.
تحفة معمارية
على الجانب الأيسر لمعمل الفخار في تمكروت، ترسم أبواب الورش الخشبية المتتابعة صورة معمارية لا شبيه لها بالمنطقة، كلما اقتربت منها تسمع دوران آلة خشبية تسمى «اللولب» تحركها قدما الحرفي من الأسفل وتتبعها أنامله المتسخة من الأعلى، لتشكل من الطين تحفاً فنية من الخزف.
وتحتاج هذه التحف فقط إلى 24 ساعة في الظل حتى يجف الطين ويحافظ على تماسكه قبل وضع آخر اللمسات المهنية لتصميم وتشكيل قعور وحافات المنتجات بالآلة نفسها.
بعدها تتعرض المنتجات لأشعة الشمس قرابة ثلاثة أيام أو خمسة حتى تجف وتصبح صلبة، ليجري طلاؤها بخليط أسود مكون من «الحريرة المسوسة»
و«تافزا» أو «الحجرة الميتة» بتعبير أهل الحرفة، وهو نوع من الصخور الكلسية المسؤولة عن اللمعان نظراً لثرائها بحبيبات زجاجية، وفقاً للحرفي رضوان لخضر.
وأشار لخضر إلى أن معدن الكحل ومسحوق النحاس يدخلان ضمن هذا الخليط، فالأول يمنح المنتج ملمساً ناعماً فيما يكسوه الثاني باللون الأخضر الذي يتميز به فخار تمكروت عن سائر المناطق الأخرى في المغرب.
وذكر الحرفي المغربي أن مكونات الخليط تتفاعل عندما تتعرض الأواني لدرجة حرارة تتراوح من 900 إلى 1000 درجة مئوية داخل أفران تقليدية يوضع في طبقتها العليا كل ما تجود به أيادي الفخاريين من أوان خزفية وقرمود وزليج بلدي بعناية لا تحتمل الخطأ، أما الطبقة السفلى للفرن فهي خاصة بالتدفئة وإشعال لهيب النيران الذي يخترق الثقوب الجامعة بين الطبقتين.
غزو الآلة
لم تشفع الشهرة الواسعة لفخار تمكروت، حيث يعاني عدة مشاكل تهدد بقاءه على خريطة الصناعة التقليدية بالمغرب، ويرجع هذا التهديد، حسب لخضر، إلى منافسة وغزو الآلة التي أنتجت الأواني الزجاجية والبلاستيكية ثم المعدنية للأسواق المغربية التي تطورت بشكل سريع.
وأكد حرفيون في قرية تمكروت أن الموقع الجغرافي للمنطقة رغم تاريخها العريق لا يساعد على الانفتاح على أسواق جديدة، فضلاً عن بعد القرية عن المدن والمراكز ذات الطابع السياحي كمدينة مراكش وأكادير المغربية، داعين إلى تسليط الضوء إعلامياً على هذا النوع من الحرف.
وعزا الحرفي عبدالحق داني هذه المشاكل إلى غياب التعاون بين الحرفيين، كما أن هذه الحرفة لم تعد تدخل ضمن اهتمامات الفئة الشابة التي أصبحت تفكر في توجهات أخرى، ما يهدد مستقبلها بعد أن صمدت خمسة قرون.
ويرى داني أن الحل يكمن في تقديم الدعم المادي والمعنوي من مختلف الفاعلين والمعنيين للمحافظة على هذا التراث العريق، مشيراً إلى أن الحكومة المغربية شيدت قرية الفخار في القرية إلا أنها لم تطلق شرارة انطلاقها.
*مشارك في برنامج القيادات الإعلامية العربية ـ المغرب