الخميس - 21 نوفمبر 2024
الخميس - 21 نوفمبر 2024

توقيت (المنويت)!

كنت جالسة في إحدى زوايا غرفتي، والبرد يأكلني، تناولت قدحاً دافئاً من الينسون، لعلي أدفئ عروقي، كنت أرغب في النوم، ولكنني قضيت ليلتي أغالب الأرق والإرهاق وكآبة الفجر، بينما أرنو إلى الشارع الذي بدأ يستيقظ بفتور غريب، كانت عيناي عالقتين بمقدمة سيارة قديمة سوداء، معظم هيكلها انغمس في خيوط الشفق الأحمر، بدت كجسد آلة بيانو يرقد في منتصف الطريق، وبدت إطاراتها وانعكاس الضوء على زجاجها كمفاتيح البيانو، فخيل لي أن أعزف قليلاً لعلي أسبق طلوع الشمس وأنال قسطاً من الراحة، وهكذا عزفت مقطوعة «الراحة» التي لاقت استحساناً جماهيرياً لا بأس به.

يحدث أن تكون قطعة موسيقية واحدة، هي كل الإبداع مجتمعاً ولو لمرة واحدة، تماماً كأن نجمع العدد 10 مع الرقم 3 ليعطينا الناتج الساعة الواحدة!! وذلك وفقاً لآلية حساب الزمن أي التوقيت، لتأتي الأسطورة في ألحان «المنويت»، لتحدد على مدار الوقت، الخط الفاصل بين الحب والمقت، والتي لا تزال منذ أكثر من مئتي عام، محط إعجاب ذوق الرأي العام، وقد حصلت على إعادة إحياء لها حين استخدمت في الفيلم الكوميدي البريطاني الكلاسيكي The Lady-killers سنة 1995 والذي تمت إعادة صياغته تحت نفس الاسم ولكن بنكهة هوليوود الأمريكية سنة 2004.

يحدث أن تكون قطعة موسيقية واحدة، هي كل الإبداع مجتمعاً ولو لمرة واحدة

(لويجي بوكريني) مؤلف موسيقي إيطالي من الحقبة الكلاسيكية، عرف أساساً بموسيقى الحجرة وسيمفونيات الحجرة ومئات الرباعيات الوترية والخماسيات الوترية والثلاثيات الوترية، كتب معظمها بأسلوب يشبه كثيراً أسلوب الموسيقار الخالد (هايدن)، كما كان معروفاً في عصره آنذاك كعازفٍ ماهر على آلة التشيللو، وبالرغم من أن جميع أعماله اعتبرها النقاد غير أصلية بشكل خاص، إلا أنها باتت معروفة لألحانها المفرحة والمعبرة وكتابتها الآلية السلسة بشكل عام، فموسيقاه قد تكون أحياناً ضعيفة وركيكة وربما مختارة لتبدو محتارة، لكنها بالرغم من كل ذلك تبدو دائماً مليئة بالنغمات الجيدة والسارة، كما لو كانت أنغاماً أصلية مدهشة للجميع، من حيث أركان الجملة اللحنية والتوزيع.

كان (لويجي بوكريني) عازفاً مبدعاً للغاية منذ الوهلة الأولى، فهو ابن عازف الدبل باص والتشيللو الذي أعطاه دروسه الأولى، شارك في أول حفلات للرباعي الوتري أمام الجماهير في ميلان، وكوّن صداقة مع أحد أمهر وأشهر عازفي الكمان، وقرر الاثنان عمل جولات معاً مسافرين لباريس ثم لمدريد، ولكن الأسى كان ينتظره «وهل من مزيد؟»، فقد ماتت 3 بنات له وزوجته، وهي أحداث أسهمت بالتأكيد في تدهور صحته ومن ثم موته.