حبر دائم.. لا يغادرون الغربال

أذكر أغنية لعبدالحليم حافظ بعنوان: «أعز الناس»، تعالج سيكولوجية العلاقات بين البشر، وتطرح ما يفيد بأن الزمان يدور ويغير في حياتنا الكثير، فنلتقي بأناس ونغادر آخرين، ندخل زحمة البشر، ثم نخرج منها لازدحامٍ بشريٍّ آخر، ونتوه بين الازدحام والناس، وقد ننسى كل الناس، لكننا مهما دار الزمان بنا، لا ننسى أشخاصاً بعينهم، أولئك هم أعز الناس.

هناك أشخاص تجرهم المصادفة في طريقك بغير تنظيمٍ منك، يتركون بصمة قد تلمسها وتُحسها بحواسك، أو قد تختلط في فكرك ووجدانك فتدخل في صياغة شخصيتك، وتتعلم منهم الكثير، أو قد يتركون رؤية تنير دهاليز عتمة في جمجمة رأسك، مثل هؤلاء تماماً يشبهون ذلك النوع من الحبر غير القابل للمحو أو التلاشي، فيبقى طوال العمر مصاحباً لك ملتصقاً بك، بل يدخل في تركيبك، لذلك فإنك مهما غربلت بين الحين والحين؛ معارفك وصداقاتك، هم غير قابلين للسقوط، فهل من المعقول أن تسقط أنت ذاتك من الغربال؟، بالطبع لا، فهؤلاء الأعزاء اختلطوا معك وصاروا جزءاً منك.

من الغريب أن هناك بعض الناس الذين تعرفهم وتتواصل معهم؛ دون أن تلتقيهم وجهاً لوجه، يملكون تلك القدرة التي تجعلهم في زمرة هؤلاء الذين لا يغادرون الغربال، وكذلك أشخاصٌ لا تربطك بهم علاقة إلّا لفترة وجيزة، لكنهم عصيون على النسيان، فمن المؤكد أن العلاقة بين البشر، والصداقة بشكل خاص، لا تُقاس قوتها ومتانتها بالزمن وحده، فهناك عناصر أهم تنسج الأواصر التي تربطك بهم بشدة وعمق.

ما أجمل العلاقات الإنسانية عندما تكون صادقة، بسيطة، عفوية، تلقائية، غير متكلفة، حينها سيرسخ من يستحق، ويسقط الآخرون من الغربال.