انتبهت مرة، وبشكل عرضي لإحدى قريباتي وهي تضع أحمر الشفاه، شعرت لأول وهلة، أن قلم الشفاه ذاك، هو أول قلم شفاه أراه في حياتي، لأنه أثبت وجوده، مثل كائن يعبر عن أناه بمعزل عمّا يحدث حوله.
وحدث مشهد مماثل بعد سنوات مع صديقة أخرى، كانت ترش العطر بطريقة يشع العطر فيها مثل كيان يتمدد ويرمي شباكه في المكان، بل ويفيض عليه، فتمنيت لو أن بإمكاني استعارة هذا العطر لشيء سحري يكتنفه، لجوهر ينطوي عليه.
وفي ذلك الوقت، تأمّلت كثيراً مثل هذه المشاهد ومشاهد أخرى شبيهة، وكنت أعتقد أن بعض الأشياء، حتى الجمادات منها، تعي ذاتها، أي لديها شيئاً من الوعي بوجودها، ولم أعرف لماذا هي بالذات دوناً عن غيرها تتمظهر في فرادة مدهشة، إلا أني سألت نفسي مرّة: لماذا يجلس البعض ليأكل معك من الطّبق نفسه، لكنك تشتهي طعامه في اللحظة التي تتذوق فيها الطعام ذاته؟ هل لأن الناس يختلفون في تعاطيهم مع الأشياء فيمنحونها قوة تعبيرها عن نفسها؟
قرأت بعد سنوات عن انعطافة الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر فيما يسمى بـ«فسحة الوجود» فقد أظهرت فلسفته المتأخرة عن ممانعة ما يسمى بالـ«مكننة» أي كل شيء يعمل مثل آلة ترغم الأرض على تسليم ما عندها، بدلاً من بري الأشياء برفق والتحنن لها؛ فهو من مناصري فكرة «ترك الأشياء تكون» أي عدم خوض أي تحدٍ مع الأشياء، بل منحها حرية أن تقدم نفسها بطريقتها الخاصة، ولذلك تقبض بعض الأعمال الشعرية على جوهر الوجود أكثر من الفلسفة أحياناً، لأن الشاعر يترك الأمور تتكشف أمامه دون أي تدخل منه، فحسب هولدرن «شعرياً يسكن الإنسان على هذه الأرض»!
يعتقد هيدغر أن الإنسان هو الوسيلة الوحيدة التي من خلالها يمكن أن تتحقق فسحة أو انفراجة لترك الكائنات تكوِّن وتعبر عن نفسها، مثلما يؤمن الرسام الفرنسي سيزان «بأن المنظر الطبيعي يفكر من خلاله، فالإنسان هو الوعي الذي يمنح الأشياء القدرة على التفكير بنفسها».
أحسب أن بعض البشر لديهم القدرة على التنحي جانباً لكي يمنحوا الأشياء ما يشبه ضوء الشمس الذي يساعد على نمو شجرة، وتركها تنهمك في ذاتها وتشمخ ساطعة في الوجود، وهؤلاء الناس هم الذين يجب أن تتخذهم أصدقاء في حياتك، لأنهم، ومن دون قصد، يمنحون العالم قوة تحققه بعيداً عن الأنانية، التي بدأت تداور هواءً خانقاً يجثم على رئة هذه الأرض فيمنعنا من التلذذ بسحر وجمال الآخر، حتى لو كان أحمر شفاه عابر أو شجرة ورد في الباحة الخلفية للمنزل.