السبت - 23 نوفمبر 2024
السبت - 23 نوفمبر 2024

البحث العلمي.. التقدم والمواقف المسبقة

خلال الأسبوع الماضي، حظيت بشرف اختياري رئيساً لحفل تخريج زميلين أكاديميين ليبيين في معهد الجغرافيا السياسية في باريس. وكانت إحدى أطروحتَي الدكتوراه الخاصة بهما تتعرض لتصوّر أوضاع «النخب الاجتماعية والسياسية»، ويدور محور الدراسة الثانية حول «مهمة وسائل الإعلام وأدوارها»، وترتبط الأطروحتان بالظروف المتعلقة بليبيا.

تميز العملان بقوة توثيق المعلومات، وأثار عرضهما على لجنة التحكيم الكثير من النقاشات العميقة والمهمة. ولم يكن المكان الذي شهد المداولات مناسباً لمناقشة مدى صحة المفاهيم التي طرحها العلّامة عبدالرحمن بن خلدون حول «العصبية»، ولا استعراض آرائه المتعلقة بالأنظمة السياسية وصراعات القوى على السلطة في القرن الرابع عشر الميلادي في شمال أفريقيا. وكان من الممكن استدعاء باحثين آخرين أكثر حداثة، من أجل التوصل لفهم أفضل لتلك المواقف المعقدة التي تترافق مع احتدام الصراع على السلطة المركزية على المستويات الإقليمية أو الآيديولوجية. ولا يزال الأمر موضع نقاش حول ما إذا كان العالم العربي يمكنه الالتزام بمظاهر ومواقف معينة توحي برغبته في الانتصار للسلطة المركزية للدولة وتكريسها.

ودعنا نشير هنا إلى أن الأدوات المتاحة أمام الباحثين تتشابه تماماً في العالم كله، ولكن لا يتسنّى استخدامها وتوظيفها على النحو السليم، إلا من قبل العلماء الذين يتمتعون بمعرفة معمقة للأطر النظرية للبحث الأكاديمي، إذ ينبغي على الباحث أن يكون مراقباً حيادياً غير متحيّز ولا منقاداً بالمواقف المسبقة، ولا يتعلق دوره بتوجيه النصائح، ولا البحث عن الحلول، ولا الانتصار لطرف على آخر، بل يجب عليه الالتزام بأدبيات التحليل العلمي القويم، مع القدرة على تحقيق الدخول المفتوح على المصادر والنتائج.


ولنتوقف مثلاً عند مفهوم «الجغرافيا السياسية» geopolitics التي غالباً ما يُساء فهمها، ويظن البعض أنها وصفة تهدف لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية على المستوى العالمي، ولكنّها عملية علمية أكثر بساطة تهدف للمساعدة على فهم المواقف السياسية وتعقيداتها، وفقاً للأبعاد المحلية والعالمية.


ويُعتبر الالتزام بهذا المنهج تحدياً بالغ الصعوبة، غالباً ما يتم تجاوزه من طرف الموجّهين، فإما أن يطلبوا من الباحث الالتزام بموقف مسبق، أو ينظروا إليه باعتباره يشكل تهديداً لهم.

وأذكر أن باحثاً زميلاً لي، كرّس أبحاثه لسنوات لتوصيف أسباب ودوافع التوترات التي تقوم بين الجماعات الإثنية والقبلية في الصحراء الليبية، وكان عليه أن يقاوم الكثير من ضغوط مستضيفيه لتبني قضاياهم، وهذه المواقف هي التي تبرر الدعوة للحرية الأكاديمية المطلقة في جميع مجالات البحث العلمي.