الاحد - 24 نوفمبر 2024
الاحد - 24 نوفمبر 2024

الواقع قبل النص

في معظم القضايا التي تشغلنا، يلجأ البعض إلى عدد من النصوص التي يتصور أن الحل الناجع يكمن في الأخذ بها، قد تكون هذه النصوص سياسية أو فكرية وأدبية وربما فقهية!

وهنا أصبح لكل تيار فكري أو سياسي نصوصه الخاصة، والكل يحتكم إلى نصوصه فقط، وامتلأت المكتبة العربية في العقود الأخيرة، بالكتب التي تقوم على جمع أكبر عدد من النصوص والكلمات أو الحكم التي وردت على لسان كبار الكتاب والمبدعين، فضلاً عن المصلحين والزعماء.

يتبارى البعض في استظهار تلك الحكم وترديدها في أي مناسبة، بغض النظر عما إذا كانت تناسب السياق الذي تستخدم فيه أو لا، وقد يتحول نص أو أكثر إلى شعار يملأ وجدان وعقل البعض، خاصة من الشبان.


كثيراً ما تكون النصوص جميلة ورائعة، في تناغم كلماتها وكثافة مفرداتها، لكن عند الاحتكاك بالواقع والهبوط بها من جمال الصياغة إلى مستوى الفعل والتنفيذ، تصبح النصوص مطاطة، يمكن أن تدفعها في أي اتجاه، فتحمل الشيء ونقيضه، وهذه ليست مشكلة الثقافة العربية فقط، لكنها مشكلة إنسانية عامة، تأمل مثلاً نص القرار 242، الذي أصدره مجلس الأمن عقب حرب 1967، والذي نال موافقة العرب جميعاً وكذلك إسرائيل، وساندته القوى الكبرى في العالم وصفق له الجميع، لكن عند محاولة التطبيق تبين أن هناك أكثر من فهم وتفسير له، وعملياً لم يحل أي مشكلة، بل ترك المشاكل كما هي، إن لم نقل إنه زادها تعقيداً.


وحتى النصوص المقدسة رغم سموها، لم تسلم من تباين الفهم وتعدد القراءات، ولذا تعددت المذاهب وانتشرت الفرق والنحل في الأديان كلها وتصارع البعض حولها وأريقت دماء حولها.

وبمعنى أدق توجد قراءات متعددة مختلفة، وقد تكون متناقضة للنص نفسه، في المجالين الأدبي والفكري، قد يكون ذلك ممتعاً يثير الخيال وينشط الذاكرة، ويخلق حالة من الجدل الإيجابي، لكنه في القضايا الاجتماعية والسياسية يثير الكثير من المشاكل ويخلق الأزمات، وهكذا علينا أن نعول على الواقع ونتفاعل معه ولا نركن كلية إلى النصوص الجميلة والممتعة.

فلو توقف العالم عند جمهورية أفلاطون، أو كتاب أرسطو في السياسة، لبقيت العبودية إلى اليوم، وما وجدنا للمرأة أي دور سياسي أو اجتماعي، مع بالغ التقدير لرؤية أفلاطون «الجمهورية»، ونصوصها العظيمة وكذلك وضوح أفكاره وكلماته.

في مواجهة القضايا الاجتماعية والإنسانية الكبرى، نحتاج إلى تأمل الواقع ودراسته جيداً، كي نصل إلى حلول ولا نكتفي بالارتكان إلى نصوص لكبار المفكرين والمصلحين، نتصور أن الحل الناجع بداخلها.