لم يكن اجتماع الفصائل الفلسطينية بعد تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل من أجل التغيير وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية هو الأول من نوعه، فقد سبق ذلك اجتماع بعد هجرة الفلسطينيين الثانية عام 1967 لتغيير مُسمياتهم الحزبية من الشيوعية إلى القومية العربية بما يتناسب مع الثقافة القبلية، ثم الدعوة للانتقال من مرحلة «انتفاضة الحجارة» إلى السلام في أوسلو عام 1993.
كما أن دعوات إصلاح البيت الفلسطيني من الداخل عادة ما تنتهي بالتغيير بما يتوافق مع بعض الأجندات الخارجية، بينما نشهد اليوم توافقاً فلسطينياً على أن جنوب إفريقيا هي نموذجهم الأفضل وقبلة نضالهم الجديدة ما بعد أوسلو، فالرئيس الفلسطيني القادم لمنظمة التحرير الفلسطينية لن يستطيع الخروج من الدائرة المرسومة له فصائلياً في الانطلاق من مدرسة جنوب إفريقيا الثورية.
لسنا هنا بصدد تقديم البراهين على هذه المتلازمة التي يدّعيها الفلسطينيون مع أفارقة الجنوب، فتدشين تمثال رئيس جنوب إفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا عام 2016 بالقرب من مقر الرئاسة الفلسطينية، هي الصورة التي اختصرت 1000 كلمة بأن مانديلا هو نموذجهم ما قبل التحرر وما بعده.
متلازمة تاريخية
نعم.. هناك تشابه بين الحالة الفلسطينية ونظيرتها في جنوب إفريقيا من حيث تشابه التواريخ؛ حيث تكثفت هجرة اليهود إلى البلدين بعد عام 1900، كما أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان هو العام نفسه الذي أعلن فيه البيض «الإنجليز والهولنديون» نظام الفصل العنصري ضد الأفارقة السود، والذي سقط عام 1993 وهو عام توقيع الفلسطينيين السلام في أوسلو.
لم يقتصر التشابه على تواريخ التقويم السياسي فقط، بل نال كلٌ من ياسر عرفات ونيلسون مانديلا بعض الاتهامات بالخيانة بعد عام 1990 لقبولهما الجلوس على طاولة المفاوضات الأمريكية «الإمبريالية».
لا شك أن التشابه الرقمي بين جنوب إفريقيا وفلسطين مؤشر على وجود «متلازمة ثورية» بين الفريقين، ولكن البحث المنهجي الأكثر تجرداً من العواطف قد يقودنا للأسباب الأكثر دقة، والتي تفوّق بها أفارقة الجنوب وأخفق الفلسطينيون في الاستفادة منها.
حيث كنا نحن الفلسطينيين في الـ100 عام الماضية بالصفوف الأولى في المدرسة السوفييتية الأممية «الكومنترون»، لذلك لا نريد أن نكون في 100 عام المقبلة في المدرسة الإفريقية النضالية، التي أسسّها فلاديمير لينين بعيداً عن متطلبات الشعب الفلسطيني الإنسانية.
متلازمة نضالية
لم يكن وجود البيض الأوروبيين في فلسطين كاليهود والإنجليز والهولنديين في جنوب إفريقيا محض خلاف مع السكان الأصليين، الذين انبهروا بالحضارة الأوروبية سواء كانت شرقية يهودية أو غربية بريطانية، بل كان الهولنديون يُعلمون الأفارقة الزراعة، وهم بدورهم كانوا يُدربون الأوروبيين على صيد الحيوانات المفترسة في جنوب إفريقيا، كما لم يكن عند الفلسطينيين ضيم بالعمل في الجيش البريطاني ومزارع اليهود قبل نشأة القوميتين الفلسطينية والجنوب إفريقية، التي أسهم اليهود الشرقيون في صناعتها، وفق ما أكده بعض الباحثين الفلسطينيين وأفارقة الجنوب.
وبريطانيا التي أسهمت في إعادة تأهيل أغلب القوميات العالمية ومنها العربية، لم تكن حينها ضد القوميتين الفلسطينية والجنوب إفريقية بالقدر المبالغ فيه الذي رسمه الإعلام اليساري، بل كانت مشكلة هاتين القوميتين في الانتماء للأيديولوجيا السوفييتية الموجهة ضد مصالح الإنجليز في الشرق الأوسط وإفريقيا.
فالفصل العنصري في جنوب إفريقيا هو مخاض لمجموعة من الصراعات الدولية، كالصراع الدموي بين الهولنديين والإنجليز للسيادة على رأس الرجاء الصالح، الذي أسهم في تكريس مفهوم الفصل العنصري ضد الأفارقة السود للحفاظ على وجود الأوروبيين البيض في جنوب إفريقيا.
وليس بعيداً عنه مخاوف البريطانيين على أرض فلسطين من الغزو الفرنسي العسكري ومن المد الفكري السوفييتي، حيث أصدرت بريطانيا جواز السفر الفلسطيني والجنيه الفلسطيني المطبوعين باللغتين العربية والعبرية، بالإضافة إلى الإنجليزية، كرسالة واضحة للجميع أن الفلسطينيين واليهود اتفقوا على قومية واحدة، ولا حاجة لهم لرعاية أجنبية بعد خروج الإنجليز.
إذاً، ما حدث عام 1948 في فلسطين وجنوب إفريقيا لم يكن رفضاً أوروبياً لأصحاب الأرض بشكل مباشر أو مطلق، بل إن الفلسطينيين وأفارقة الجنوب تأخروا كثيراً في فهم ما يجري من حولهم، وعلى الرغم من ذلك يرجع نجاح أفارقة الجنوب لاندماجهم اللغوي والديني مع الإنجليز، وهو الشيء الذي يرفضه الفلسطينيون.
أو يمكن القول إن التعنت الفلسطيني هو أشبه بالتعنت الهولندي «الأفريكانز» الذي أسقط حكم البيض في جنوب إفريقيا، بينما ليونة الأفارقة السود مع الأمريكان هي أشبه بدبلوماسية اليهود مع الإنجليز، وهذه من أهم أسباب قيام دولة إسرائيل وسقوط الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
مانديلا.. وعرفات
لا يمكن مقارنة نظام الفصل العنصري «الأبارتهايد» ضد الأفارقة السود بسياسات إسرائيل مع الفلسطينيين؛ فالإسرائيليون منذ اللحظة الأولى اندمجوا بالثقافة العربية من أجل أن يكون لهم مكان في الشرق الأوسط الجديد، بينما الأوروبيون البيض وخاصة الهولنديين «الأفريكانز» كان بعضهم يشكك في آدمية البشرة السمراء.
ومع ذلك لم يطالب نيلسون مانديلا بطرد البيض لأن وجودهم لا ينقص من مواطنته على الأرض السمراء، كما لم يطالب بدولة للسود داخل دولة البيض التي رسمتها التحالفات العالمية، وهو يعلم أن خطابه أمام المجتمع الدولي كان يجب ألا يتجاوز ما تقتضيه (الضرورة الإنسانية) التي نصت عليها القوانين الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.
بينما كان خطاب ياسر عرفات بما يقتضيه (الطموح السياسي) للفصائل الفلسطينية، ويظهر ذلك بالمقارنة بين مصطلحات التحرر الجنوب إفريقية المقتبسة من القاموس الإنساني الدولي، ومصطلحات التحرر الفلسطينية التي تعالت على المجتمع الدولي «الغربي»، التي أظهرت معاناة الفلسطينيين كضحية القيم الليبرالية التي يتبّناها المجتمع الدولي وليس بسبب الضرورات الفلسطينية.
ومن أهم المفارقات بين مانديلا وعرفات أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تأسس عام 1912 كمظلة تحررية لجميع الأطياف الفكرية حتى عام 1993، بمعنى أن 100 عام مرّت على أفارقة الجنوب وهم على قلب رجل واحد، في حين أن حركة فتح الفلسطينية تأسست على أنقاض 40 تنظيماً سياسياً فلسطينياً متنازعاً على قيادة السلطة ما بين الإخوان المسلمين والبعثيين.
إن شيوعية مانديلا لم تكن إلا وسيلة لوصول أفارقة الجنوب إلى التعددية العرقية وأداة للتفاوض مع الأوروبيين والأمريكان، بينما شيوعية عرفات «إن صح وصفه بها»، فقد مارسها رفاقه في دول الجوار العربي خارج أرض فلسطين كغاية فكرية لا علاقة لها بحقوق الفلسطينيين.
ما بعد التحرر
مرة أخرى، إن وجود تمثال نيلسون مانديلا بالقرب من مقر الرئاسة الفلسطينية ليس له إلا دلالة واحدة، وهي أن السلطة الوطنية الفلسطينية عازمة في سيرها على خطى أفارقة الجنوب، وما يهمنا هنا هو مفهوم جنوب إفريقيا لحل الدولتين والتطبيع بين البيض والسود بعد نهاية الفصل العنصري.
لقد رفض أفارقة الجنوب فكرة حل الدولتين، وأصروا على مفهوم العيش المشترك بين البيض والسود في الدولة الواحدة للحفاظ على المكتسبات السياسية والاقتصادية والعلمية، التي حققها البيض على أرض جنوب إفريقيا التي هي أصلاً موطن السود قبل أن تكون للبيض.
وربما وفق مفاهيم مانديلا للتعددية والشراكة الوطنية حول تطبيق حل الدولة الواحدة، أن فصل الشعوب المتخاصمة على الأرض المتنازع عليها هو بمثابة الانتقال من (الفصل العنصري العرقي) إلى (الفصل الثقافي العلمي والتقدمي).
فمطالب السود بعد التحرر كانت مشاركة البيض في التعليم والصحة بالدرجة الأولى، وأن فكرة حل الدولتين أو قيام دولة مستقلة للسود بعيداً عن البيض سوف يكلف الدول الداعمة للسود المليارات من الدولارات.. تكاليف باهظة جداً قد تفوق كلفة إعادة إعمار العراق وسوريا واليمن مجتمعين.
كما لم يرد مصطلح التطبيع في منهج التحرر الجنوب إفريقي على الأغلب، وربما السبب هو تجنّب شبهة أن يحمل مفهوم التطبيع أو رفضه دلالات عنصرية، لذلك كان مصطلح «المصالحة الوطنية» هو الأقرب والأفضل لمنح صفة المواطنة لكل من يعيش على أرض جنوب إفريقيا، دون الشعور بالتمييز حسب ما نصَّت عليه الشرائع الدولية.
إن المصالحة الوطنية في جنوب إفريقيا لم تنتزع الأراضي التي استولى عليها البيض بطرق غير شرعية في مقابل تحقيق الشراكة الكاملة بين البيض والسود في كافة المجالات المجتمعية، حتى أصبحت جامعات جنوب إفريقيا اليوم التي أسسها البيض محطة لجميع الطلاب الأفارقة من القارة الإفريقية.
إن جنوب إفريقيا اليوم وبعد 30 عاماً من نهاية الفصل العنصري، لم يبقَ فيها عنصرية حسب العرق أو الدين أو اللغة، بل أصبح مجتمع جنوب إفريقيا كبقية المجتمعات العالمية، حيث تحولت الصراعات العرقية إلى خلافات فكرية وتيارات حزبية؛ ففي الحزب الواحد نجد اللون الأبيض واللون الأسود والغني والفقير، والجميع يعمل من أجل وطن واحد وهو جنوب إفريقيا.
سؤال الخاتمة
إن المفارقة الغريبة في هذا الجانب، أن الفلسطينيين على وسائل الإعلام العربي يطالبون بـ(حل الدولتين) وفق ما نصت عليه مبادرة السلام العربية التي تبنتها السعودية حسب رغبات الفلسطينيين عام 2002، بينما حقيقة الحراك الفلسطيني على الساحة الخارجية غير العربية وخاصة اليسارية والشيوعية، نجد فيها أن الفلسطينيين مرتبطون بمنهجية مانديلا، وهو مؤسس مدرسة أو فكرة حل الدولة الواحدة عام 1990.
لذلك لا بد أن تكون الخاتمة هنا سؤالاً موجهاً لكل فلسطيني ليطرحه على كل من حوله، وهو البحث في الفرق بين حل الدولة الواحدة التي يعيش فيها الإسرائيليون والفلسطينيون وفق منهج مانديلا، أم البقاء على الصراعات الفلسطينية مع دول الجوار العربي والعالم تحت ذريعة حل الدولتين!
والسؤال الآخر، إذا كانت الفصائل الفلسطينية وخاصة حركتا فتح وحماس متوافقة على منهجية ومدرسة الرئيس مانديلا في أطروحته للسلام من خلال حل الدولة الواحدة، فلماذا الإصرار على تعميد الصراع العربي الإسرائيلي بإطاره الأبدي بين العرب واليهود؟!