مع كل خبر يتصدر المواقع الإخبارية من أعمال عنف تقوم بها الجماعة المسلمة في العالم الإسلامي وأوروبا على وجه الخصوص يعود الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ثم يهدأ الوضع ويعود مرة أخرى بصورة أكثر عنفاً ودموية، آخرها الهجمات التي شهدتها مدن أوروبية مختلفة، يدينها الإسلام الرسمي المتمثل في الأزهر الشريف كمؤسسة عالمية تمثل الإسلام السني، مدافعاً عن الإسلام ومنكراً مروره بأزمة، كما ادعى الرئيس الفرنسي.
ويستمر الصراع بين الإسلام الأرثودوكسي وتيار التنوير في الإسلام، حيث يرتكز الإسلام الرسمي في عدم حاجة الإسلام إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية، ولا حاجة لفصل الديني عن السياسي كما حدث في تجربة عصر الأنوار الأوروبية، كون الإسلام يخلو من سلطة دينية مؤسسية كالكنيسة الكاثوليكية.
هذه المقاربة تحمل شيئاً من الصحة من حيث المبدأ، لكن لا وجه للمقاربة بين وجوب التنوير في الإسلام والمسيحية الغربية، إذْ لا تزال تجربة التنوير الأوروبية ثرية ومتنوعة ولا يمكن تجاهلها أو التملص منها.
فبداخل عصر الأنوار الأوروبي مرت الجماعة اليهودية هي الأخرى بتلك التجربة واشتبكت معها مباشرة، ونظراً للتقارب الشديد في التكوين والتشريع والعقيدة اليهودية من مثيلتها في الإسلام يجعل من دراسة التجربة اليهودية التي عُرفت بـ "الهسكلاة بالعبرية اشتقاقاً من الفعل «להשכיל»، وهو فعل يحمل أكثر من دلالة، ففي العبرية الحديثة يعني «التعليم» وفي دلالة أقدم يعني «عقل» وعقل الشيء يعني إدراك حقيقته.
تفتقر اليهودية ـ كما الإسلام ــ إلى وجود مؤسسة كهنوتية، ويتفقان في الإقرار بسلطة النصوص الدينية وسلطة جمهور العلماء، كما مرت الجماعة اليهودية بظروف قاسية في أوروبا جعل تجربة التنوير فيها ثرية حسب التنوع الجغرافي، كما أن كليهما يعتدُّ بلغته السامية (العبرية والعربية)، لغة النص الديني، وجعل منها lingua sacra أي لغة مقدسة، لغة الخطاب الإلهي ولغة التعبد.
كل ما تقدم ذكره بصورة سريعة يجعل الدراسة والتعلم من تجربة «الهسكلاة» اليهودية معتبراً ومبرراً، وإن كان الصراع السياسي يغلب على الطابع العلمي في العالم العربي، ما يجعل هناك حساسية ما تجاه ما هو يهودي للتعلم منه، وهو أمر مردود عليه.
لنتأمل الفارق والهوة الكبيرة التي كانت بين الهجرات اليهودية من أوروبا قبل عام 48 أي إعلان قيام دولة إسرائيل، وبين العالم العربي والإسلامي من حيث التنوير، الذي كان لا يزال في بداياته.. هذا هو الفارق النوعي والأهم ــ في نظري ــ بين الجماعة اليهودية والعرب، وليس فارق القوة العسكرية والدعم الغربي.
وعن هذه الطبقة «النخبة اليهودية المستنيرة» التي تحدث عنها «عاموس عوز» في روايته الضخمة «أحاديث النور والظلمة» والتي أنشأت دولة بمفهوم حديث، واستطاعت أن تقدم قضيتها بلغة مفهومة للغرب، مع وجود مناخ ديمقراطي يسمح بنقد الذات بصورة مستمرة، من خلال سؤال التراث الديني والصراع مع التقليديين دون مواءمات.