لا تزال الرغبة الفلسطينية متوقّدة لتأسيس دولة فلسطين المستقلة بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية.. عقود مضت والفلسطينيون يعملون على كافة الأطر الإقليمية والدولية دون أن يتحقق لهم أدنى مطلب سياسي أو قانوني، وليس التَّعنُّت الإسرائيلي وحده هو سبب فشل الفلسطينيين بقدر ما أن هناك أسباباً أخرى لم نُشبعها دراسة وبحثاً جندّت رغباتنا الفلسطينية على طاولة رهانات واحتياجات الآخرين.
يمكن القول: إن الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تأسس عام 1919 لتنظيم وحفظ حقوق العمال الفلسطينيين في المزارع اليهودية كان بمنزلة النواة الأولى للقومية الفلسطينية الحديثة، على الرغم أن (الشيوعية الفلسطينية) لم تكن ضمن احتياجات الفلسطينيين لبناء دولتهم الفلسطينية، بل كانت وفق رغبات الشيوعية الدولية (الكومنترن) لتكون فلسطين دولة أو محطة لإسقاط البرجوازية المُتمثلة في النظم الملكيَّة العربية.
وبعد أن أعلن الإسرائيليون دولتهم عام 1948م بعيداً عن (الكومنترن الفلسطيني)، خرج الفلسطينيون إلى الدول العربية المجاورة، وتَشَعَّبوا إلى العديد من الفصائل الفلسطينية في سوريا والعراق وفق احتياجات مؤسسة البعث العربي، وضمن مطالب بعض الطوائف اللبنانية، وأهواء القومية الناصرية في مصر.
ثم انتشرت ظاهرة الإسلام السياسي بعد تغلغل الإخوان المسلمين في فلسطين، حيث أسَّس الرفيق خليل الوزير حركة فتح لضم الشيوعيين والإسلاميين تحت لواء (العلمانية الثورية)، التي قادها ياسر عرفات في الكويت، مع توجيه الإخوان المسلمين إلى بقية دول الخليج العربي.
كما حرصت حركة فتح المستحوذة على السلطة الفلسطينية على ارتداء ثوب اليسار التقدمي الديمقراطي بعد اتفاق أوسلو، لعلّها تنال دولتها وفق الهيمنة الغربية.
لا شك أن المجتمع الغربي ليس بريئاً من تهمة عرقلة نيل الفلسطينيين لحقوقهم السياسية، ولكن القيادات الغربية وخاصة الأمريكية أيضاً ليست بغافلة عن المشروع الفلسطيني الباطني، الذي يدور في فلك الحرب على القيم الليبرالية.
بينما اليوم، لا يوجد شيء اسمه اتفاق أوسلو على طاولة المعطيات الجديدة، وحركة فتح في نزاعها الأخير، بل وتوافقت جميع الفصائل الفلسطينية على معاقبة السلطة الفلسطينية لما اقترفته من ذنب الانخراط في الإمبريالية العربية والغربية.
إن الدرس المُستفاد هنا، أن حركة فتح هي مخاض لتحالف الشيوعيين والإسلاميين، والصورة اليوم تتكرّر بشكل وثوب جديد، وإن اختلفت المُسميات وتعددت الأشكال؛ حيث إن الجميع يتابعون تحركات واتصالات الجبهة الشعبية (الشيوعية) مع حركتي الجهاد وحماس الإسلاميتين، لإعلان تشكيل جبهة فلسطينية جديدة على شاكلة حركة فتح، فالذي يبدو أن المناخ الفلسطيني لا تنضج ثماره إلا بهذا النوع من التحالفات.
كما أن (العلمانية الفلسطينية) ليست لفصل الدين عن السياسة أو المجتمع المدني، بل هي نموذج فريد من نوعه، عمل على دمج الدين بالنظم الثورية، ونقل الروحانية التعبدية من دور العبادة إلى الشارع للصلاة بين أزقة الأسواق العربية التي كانت سبباً لاضطراب الاقتصاد العربي، وهو ما يدعونا للانتباه للنظم الثورية الجديدة في اليمن وسوريا وليبيا، وعدم التغافل عن دعواتها المُبطنة بشعارات التقدمية والعلمانية.
والدرس الثاني المُستفاد هو: أن إسرائيل نالت بعضاً من احتياجاتها عبر رغبات الفلسطينيين كما فعلت دول الجوار العربي؛ فالحديث عن انهيار حركة فتح تزامناً مع التطبيع العربي ـ الإسرائيلي يقودنا إلى أن هذه الحركة كانت جسراً غير مباشر للتقارب العربي الإسرائيلي عبر العقود الماضية.
وما يجب الانتباه له هو المخاض الجديد بين الجبهة الشعبية الشيوعية مع حركتي حماس والجهاد، فقد يكون أيضاً أداة للتقارب الإسرائيلي مع الدول الإسلامية غير العربية كإيران ودول شرق آسيا، بعد عقد من الزمان أو عقدين أو ثلاثة.
إذاً، لم نشهد نحن الفلسطينيين برنامجاً فلسطينيّاً مستقلاً ضمن احتياجاتنا القومية بعيداً عن الرهانات الإقليمية منذ عام 1919، وهو ما يدعونا لتوجيه بعض الدول العربية التي لم تتلطخ بالتحالفات المتناقضة إلى إعادة ضبط الاحتياجات الفلسطينية وفق المنطق السياسي المعاصر، والواقع المجتمعي الذي لا يمكن إعادته إلى ما كان عليه الفلسطينيون قبل عام 1948م كما أوهمتنا الفصائل الفلسطينية.