لا تزال الانتقادات اللاَّذعة الموجهة لدولتي الإمارات والبحرين في أعقاب «اتفاق إبراهيم» للسلام مشتعلة، حيث تتنوع حدتها بين الرفض المتحفظ والاتهامات القاسية بالعمالة والخيانة، وغيرها من الاتهامات المحفوظة التي تردد في كل سياق إسرائيلي عربي، حتى لو كان الأمر ترجمة ونشر كتاب من العبرية إلى العربية أو العكس، كما حدث في مصر مع صدور الترجمة العربية لكتاب جاكي حوكي «ألف ليلة دوت كوم»، الذي سجل فيه مشاهداته لأحداث ثورة يناير، ومع ذلك فهذا متوقع ومفهوم.
لم يقتصر السجال على منصات التواصل الاجتماعي، بل أقول وفق ما عاينته إن هذا «الاتفاق الإبراهيمي» أحدث استقطاباً داخل كثير من البيوت والعائلات العربية، ومن اللاَّفت أن هذا الانقسام حول تأييد أو رفض التطبيع مع إسرائيل يأتي في طياته صراع الأجيال، وحتى فترة ما قبل الربيع العربي كانت توصف القضية الفلسطينية بأنها قضية العرب الأولى، حتى أتت الرياح العاصفة للربيع العربي لتكشف عن أوجاع عميقة في كل المجتمعات العربية، أهمها: غياب الحريات، وفساد في كل قطاعات الدولة، وقضايا حقوق المرأة والأقليات، وافتقار «الدولة المركزية» بمفهومها الحديث في العالم العربي، وتأرجحها بين الحداثة وبين القرون الوسطى، فضلاً عن غياب الحوار الإسلامي السني ــ الشيعي، الذي لو كان جادّاً من البداية في فترة السبعينيات؛ لجنبنا الكثير مما وصلنا إليه الآن.
ومن ثم أعيد طرح سؤال: هل القضية الفلسطينية فعلاً قضية الشباب العربي الأولى الذي خرج للشوارع مطالبا بحقه؟
تباين الرؤى بين الأجيال حيال التطبيع مع إسرائيل، ورؤية إسرائيل نفسها، تنبأ به الرئيس المصري الراحل السادات، كان واعياً جداً بـ«الحاجز النفسي» الذي تكلم عنه في خطابه الشهير أمام الكنيست الإسرائيلي، كانت رؤيته عن التطبيع «أن أتركه للزمن يتكفل به»، وصدقت رؤيته في أن هذا الحاجز النفسي لا يمكن إزالته وقتياً بسرعة، ولكنه تركه للزمن ولميلاد أجيال جديدة، ترى الأمور بشكل مغاير لرؤية آبائهم ممن كانت القضية الفلسطينية هي القضية التي شكلت مرحلة تكوينهم وشبابهم.
وكذلك كان الجانب اليهودي على وعي تام بعنصر تبدل الأجيال، ألم يكن «إبراهيم» هو أول من ثار على أبيه واعتزله بعد أن جاءه الوحي، كان وحي «إبراهيم» يمثل تحولاً جذرياً في التاريخ وقطيعة مع الماضي.
ويزخر التراث اليهودي بلعبة الأجيال، والبدايات الجديدة، ألم يحرم الله على بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة إلا بعد 40 عاماً من التيه في الصحراء؟
ترى التفاسير اليهودية أن الأمر كان يتطلب جيلين للتطهر من خطايا الماضي ونسيان «مصر» وذكريات بني إسرائيل فيها، للدخول في الأرض المقدسة، التي كانت تعني بداية جديدة جذرية لجماعات عانت القهر، تكتسب بدخولها الأرض المقدسة معاني روحية مغايرة لـ«مصر» التي مثلت المعنى «الدنيوي».. وقد راهن الطرف اليهودي على تيمة الأجيال وتبدل الأحوال معها ونجح في رهانه.
.