قُبيل الزيارة، وتحديداً في شهر أبريل 2020، عقدت اللجنة التوجيهية لإعادة إعمار الجامع النوري ومنارته الحدباء، اجتماعاً رقمياً، بحثت فيه الخطوات المزمع القيام بها، من أجل استكمال مبادرة «إحياء روح الموصل».
كان من ضمن المشاركين في الاجتماع «الافتراضي»، وزيرة الثقافة وتنمية المجتمع بدولة الإمارات نورة الكعبي، والتي أكدت على أهمية «صون التراث الثقافي»، من خلال المبادرة التي ترتكز على إشراك أبناء الموصل في إعادة البناء، وتدريب المزيد من الكوادر العراقية.
المشروع الذي يمثل عملاً مشتركاً بين منظمة «اليونيسكو» و«إيكروم»، والحكومة الإماراتية، التي تكفلت بدفع نحو 50 مليون دولار أمريكي، هو أحد أوجه دبلوماسية «الفنون والثقافة» التي تنتهجها الإمارات كجسر وصل بين الشعوب، متجاوزة الخلافات السياسية، والأطر الضيقة للأعمال محدودة الأثر، التي تخضع لاشتراطات وحسابات تتعلق بمصالح آنية، إلا أن «الاستثمار في الفن والثقافة» يعتبر رأسمال رمزي بعيد المدى، يبني جسوراً غير تقليدية للتواصل بين الشعوب، تحققُ في أحيان كثيرة، ما تعجز السياسة عن تحقيقه.
في يونيو 2019، نشرت الصحف صورة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، يجلس وهو مبتسم، وإلى جواره كريمته الشيخة فاطمة، في إحدى الشرفات الأنيقة لمسرح باذخ الجمال.
الصورة التي التقطت في العاصمة الفرنسية باريس، لم تكن لحفل عادي، بل لأمسية خاصة، شهدت حضوراً رفيعاً، ضم وزير الدولة زكي أنور نسيبة، والوزيرة نورة الكعبي، وشخصيات فرنسية عدة.
تلك الاحتفالية كانت بمثابة التتويج لجهود إماراتية استمرت سنوات، تم خلالها ترميم "مسرح قصر فونتينبلو الإمبراطوري"، والذي حمل بعد ترميمه اسم صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات.
الشيخ عبدالله بن زايد، وأثناء كلمته التي أشار فيها إلى أهمية المكان، أراد أن يوصل رسائل ثقافية أبعد من مجرد افتتاح فضاء له تاريخه الممتد، حيث أكد أن: «العبرة ليست في المكان، بل بما يمثله من قيم إنسانية نحتاج لتذكرها اليوم، حتى لا نكرر أخطاء الماضي؛ فالثقافة بمنتجاتها المختلفة كالرواية والشعر والمسرح والموسيقى والسينما والفلسفة والتراث وغيرها، هي الرابط الإنساني الأقدر على البقاء والاستمرار عبر التاريخ، وهي القماشة التي ترقع ثوب الإنسانية كلما مزقته الحروب والتطرف والإرهاب».
الشيخ عبدالله بن زايد اعتبر أن هذا العمل، هو جزء من الاستراتيجية الإماراتية في تعزيز قيم التعددية بين البشر، مبيناً أنه: «لا يمكننا أن نحدث الناس عن التسامح، دون أن نبين لهم أهمية احترام الاختلاف والاحتفاء بالتنوع؛ فالزائر إلى متحف ما لا يملك إلا أن يدرك بأن البشرية لم تتطور وتتقدم إلا بسبب تنوع إنتاجاتها المعرفية وتركيباتها الاجتماعية».
حديث الشيخ عبدالله بن زايد عن المتاحف، يقودنا بدوره إلى صورة انتشرت هي الأخرى في فبراير 2019، يظهر فيها الوزير زكي أنور نسيبة متحدثا للشيخ عبدالله بن زايد، عن لوحة زيتية نادرة للفنان الهولندي رامبرانت فان راين، استحوذ عليها متحف اللوفر في العاصمة أبوظبي، يظهر فيها وجه المسيح.
الوزير نسيبة الذي يدير ملف «الدبلوماسية الثقافية والعامة»، بوزارة الخارجية، مولعٌ بالفنون، ودائماً ما تجدهُ في المعارض والمتاحف، فضلاً عن دارته الأثيرة بمدينة العين، والتي هي بمثابة معرض فني، يحتوي على لوحات وتحف ومقتنيات خاصة.
عندما يكون الفنُ والثقافة جزءاً من تكوين الفرد، وأسلوب حياة، وشغفاً دائماً بمتابعة ما هو جديد، والتعرف على الابتكارات والنظريات والمنجزات الفكرية والفنية، والتواصل مع الفنانين والمثقفين؛ حينها يمكن بناء دبلوماسية ثقافية وفنية حقيقية، مؤثرة، مستدامة، تتجاوز مفهوم الدعائية، وتتخطى العلاقات العامة، لتتحول إلى جزء أصيل من العمل الدبلوماسي، وليست مجرد مبادرات هامشية من أجل استكمال الصورة أو تحسينها أو إعطاء لمسة إنسانية باهتة وباردة.
لعل هذا الإيمان بأهمية الفعل الفني، هو ما دفع وزارة الخارجية إلى إعلان مبادرتها دعم الحركة الفنية في الإمارات إبان أزمة فيروس كوفيد-19، عبر شراء مجموعة من أعمال الفنانين المحليين والمقيمين، وعرضها تالياً في الخارج.
وهي خطوة ستساهم في إعطاء دافع مادي ومعنوي للحركة الفنية في الداخل، وتعزيز الدبلوماسية الثقافية خارجياً، من خلال المشاريع التي ستجترح مستقبلاً عبر نشر هذه اللوحات، سواء في المعارض أو البعثات الدبلوماسية.
الفنون والثقافة، تشكلان جزء رئيسياً من صورة أي جماعة بشرية في مرآة الحضارة، وبقدرِ ما تنتجه كل دولة أو أمة من أعمالٍ موسيقية وأدبية وفنية ذات قيمة عالية، وبعد فلسفي وإنساني، بقدر ما تتسرب في لاشعور الآخر، وتتجاوز حدودها المكانية، لتكون أفضل سفير للثقافة التي أنتجتها.
هي القوة الخفية الرقراقة التي تسلبُ العقول والأرواح في غفلة، لتكون حاكمة، لا بسيفها أو راجمات صواريخها، وإنما عبر موسيقاها وألوانها وأفكارها الخلاقة.