الاحد - 24 نوفمبر 2024
الاحد - 24 نوفمبر 2024

محمود درويش... في حضرة الحنين

حلبة سباقٍ هي الحياة، قدرنا أن نعدو فيها عَدواً، لا لشيءٍ إلا لنصلَ خطّ النهاية، نرسم أثناءَ العَدوِ الأحلام، ننحت الخطط ونقاوم الأوهام، نسير حتى يملّنا الطريق، نُنهَك فتتمرّد علينا الأجساد، وتئنّ الأرواح، وتكلّ الأنامل وتعلِنُ العصيان، نجلس على قارعة الطريق لنستريح، نضع جانباً الأعباء ونؤجل الأعمال، نمنح الأذهان استراحة محارب، والأنفاس فرصة لتعاود وتيرتها الطبيعية، ونبضات القلب متسعاً لتهدأ وتترفق في طرقاتها العنيفة على صدورنا، تلتفت بعدَ صحوةٍ من سبات، فتقع عينيك على ثُلّةٍ من دواوين محمود درويش، فتجد قصائده تحكيك، تسرُدكَ، تصفُك ببراعة.

وحين تغوص في واحة دواوينه تكتشف أنها واحة غنّاء، فيها الغموض وفيها النور من حقائق الوجود، حتى تتمنى ألا تعود، كأنك تهرب منك، فتستنجد بلسانِ حاله في قصيدته (دعوة للتذكار) من ذاتِ الديوان:

مرّي بذاكرتي!


فأسواق المدينة، مرّتْ


وذاكرتي تنقرها

العصافير المهاجرة الحزينة

لم تنس شيئاً غير وجهك، كيف ضاع؟

وأنت مفتاحي إلى قلب المدينة؟

بين دفّاتِ دواوينه حضنُ أمّ تتلقّف وليدها الهارب من متاهات الحياةِ وهزاتها العنيفة، تربّت على كتفيه بأكفٍّ حانية، تدفنُ رأسه بين كتفيها، تهدئ من رَوعه، تمنحه قوّة عارمة، ثم تطلقه لمعتركِ الحياةِ من جديد، كم كنت أحنّ لما حنّ إليه درويش في قصيدته (أحن إلى خبز أمي):

وتكبر فيَّ الطفولةُ

يوماً على صدر يومِ

وأعشَقُ عمرِي لأني

إذا مُتُّ، أخجل من دمع أُمي!

تنام وعلى صدرك أحدُ دواوينه، وكأنكَ أوكلتَ إليه ما في داخِلك من أوجاع وأسقام وتأملات، لتعيدَ ترتيب ما فات وما أحدثه الزمان، فتستفيقَ على فرح، «فرحاً بشيءٍ ما» كما قال درويش:

فرحا بشيء ما خفيٍّ، كنْت أَحتضن

الصباح بقوَّة الإنشاد، أَمشى واثقا

بخطايَ، أَمشى واثقا برؤايَ، وَحْي ما

يناديني: تعال! كأنَّه إيماءة سحريَّة

من الصعب أن تأخذك خطاك إلى بساتين أشعار درويش دون أن تقع فى أسرها، دون أن تأخذك الى عوالمك التى اشتقت إليها، دون أن تمس مرضك العضال، دون أن تناديك وتحاكيك وتقص عليك ما لم تقصه أنت على ذاتك، دون أن تكون بوحك المكنون.

زيارة واحدة لا تكفي لدوايين «الدرويش» ففي حضرته رغم غيابه نصادف في أنهار أشعاره وأسفاره داخل الذات والأوطان ما يعانق واقعنا ويضم أرواحنا بحزنٍ... وبفرح.