اعتمد الاقتصاد العالمي على مدى الـ87 سنة الماضية على قوة الدولار الأمريكي الذي يعتبر أساساً مقوماً للمؤسسات المالية والأسواق في جميع الاقتصادات. وطالما سعت الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات أو المعرضة لها إلى تقليل اعتمادها على الدولار والتحول إلى عملات أخرى من أجل تسوية تعاملاتها مع الشركاء.
وفي حال قامت البلدان بتحويل اعتمادها على عملات أخرى والاستغناء عن الدولار، فإن ذلك سيعود بعواقب اقتصادية على الولايات المتحدة بما في ذلك زيادة تكاليف الاقتراض.
تسعى الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات إلى تقليل اعتمادها على الدولار والتحول إلى عملات أخرى من أجل تسوية تعاملاتها مع الشركاء.
وذكر تقرير حديث لمنتدى الاقتصاد العالمي (WEF)، أنه قبل عقد من الزمان قامت البنوك السويسرية التي تتصف بالسرية الكبيرة، بالتخلي عن تلك السرية، وتسليم معلومات حساسة تتمحور حول الغش الضريبي للولايات المتحدة، وذلك خوفاً من العقوبات.
وكانت قوة الدولار الأمريكي وسيلة لمتابعة حتى المؤسسات المالية السويسرية الصغيرة عبر المحيط الأطلسي، وطالما استخدمت الولايات المتحدة عملة الدولار لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.
عقوبات روسيا
وفي الوقت الحالي، ينطوي جزء كبير من العقوبات التي فرضت على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا على إعاقة وصولها للدولار، في حين يعتقد بعض الخبراء أن استخدام الدولار لإرهاق الدول من الممكن أن يؤدي إلى تمزق لاقتصاد العالم، ما يؤدي إلى تأثير ضريبي مماثل على العملة نفسها أيضاً.
وحذر صندوق النقد الدولي العام الماضي، من أن احتياطات الدولار التي تحتفظ بها البنوك المركزية قد وصلت إلى أدنى مستوى لها في ربع قرن ما يعكس ما اعتبره البعض الدور المتراجع للعملة.
وبحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي فإن أحد الأسباب التي ساعدت روسيا على مواجهة العقوبات حتى الآن هو بذل جهد طويل لتقليص اعتمادها على الدولار بشكل استباقي، كما أدت الدعوات الجديدة الموجهة إلى الصين لتقليل اعتمادها على نظام الدولار إلى زيادة التكهنات حول وضع العملة الأمريكية.
أحد الأسباب التي تم الاستشهاد بها لمرونة روسيا في مواجهة العقوبات حتى الآن هو بذل جهد طويل لتخليص اقتصادها بشكل استباقي من الدولار. أدت الدعوات الجديدة الموجهة إلى الصين لتقليل اعتمادها على نظام الدولار إلى زيادة التكهنات حول وضع العملة الأمريكية.
ولكن على الرغم من ذلك، أوضح التقرير أن توقع نهاية هيمنة الدولار ليس بالأمر الجديد، وصرح الخبير الاقتصادي بول كروغمان مؤخراً بأنه نشر أول ورقة بحثية له عن هذا الموضوع منذ أكثر من 40 عاماً، ولكن حتى الآن وعلى الرغم من تضاؤل القوة الناعمة الأمريكية ومصداقيتها، إلا أن عملة الدولار لا تزال الأقوى.
وتطرق التقرير إلى سيناريو ما بعد انتهاء عهد الدولار وماذا سيحدث بعد ذلك، وحتى الآن لا تزال الإجابة غير واضحة عن ذلك بسبب أوجه القصور المتصورة لدى العملات المنافسة كاليوان المحكوم بسيطرة الصين الصارمة على عملتها، واليورو المرتبط بالعديد من الكيانات السياسية المتباينة، بالإضافة إلى قلة الأصول التي تعتمد على العملات الأخرى بالنسبة للمستثمرين العالميين.
وبدأ صعود الدولار الأمريكي، في حقبة الحرب العالمية الأولى التي تركت المقاتلين الأساسيين والدول الأخرى في حاجة إلى قروض بالدولار ورفعت الطلب على السلع الأمريكية.
وساعدت تلك الأزمات على بقاء الدولار مرتبطاً بالذهب حتى مع إجبار الدول الأخرى على التخلي عن ربط العملة بالذهب، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية امتلكت الولايات المتحدة معظم الذهب في العالم، وعندما تخلت عن الربط بالذهب في عام 1971، عززت دور الدولار ليصبح معياراً عالمياً.
وفي بداية القرن الحالي، كان اليورو على وشك أن يحتل الصدارة، ولكن لم يمر وقت طويل حتى ظهرت أزمة الديون السيادية في أوروبا في نهاية عام 2009، والتي أدت إلى زعزعة الثقة في أن تقوم الدول الأوروبية بتسديد ديونها المقومة باليورو خوفاً من عدم قدرتها على تدبير العملات اللازمة لسداد الالتزامات المستحقة عليها بموجب الدين السيادي.
وفي غضون ذلك، واصل سوق السندات الأمريكية الواسعة نسبياً توفير السيولة للمستثمرين الذين يمتلكون أصولهم بالدولار.
وحفزت الرغبة في الوصول إلى نظام أقل اعتماداً على الدولار بتوفير عملة عالمية مستقلة كان قد اقترحها الخبير الاقتصادي جون ماينارد كينز في الأربعينيات من القرن الماضي، وفي الوقت الحالي يعتقد البعض أن العملات الرقمية هي التي ستوفر مساحة أكبر للمناورة حول الدولار.
ونوه التقرير إلى أن أوقات التوتر الجيوسياسي المتزايد قد تدفع للتفكير في الآثار المترتبة على استغلال احتياطي الدول من الدولار كنقطة ضعف.
وعلى الرغم من استمرار معظم قطاعات التجارة العالمية بالدولار، إلا أن هناك قدراً كبيراً من الشكوك حول احتمالات تراجع العملة.
الروبل مقابل الدولار
تقول فرح مراد - محللة أولى الأسواق المالية لدى شركة الوساطة المالية إكس تي بي في، أن الروبل الروسي هو العملة الأفضل أداءً في العالم هذا العام. وقد ارتفعت بنسبة 26% مقابل الدولار.
ورجت فرح في تصريحات خاصة لـ«الرؤية» أن ذلك لعدة أسباب، منها:
ضعف الدولار
وأشارت فرح مراد إلى أنه في الوقت الذي توجهت فيه البنوك المركزية إلى مساعدة الأسواق منذ عام 2020 لتقلل من قيمة عملاتها المحلية لتنشيط الحركة الاقتصادية، قام الاحتياطي الفيدرالي بضخ أكبر حجم سيولة في الأسواق والتي بلغت قيمتها 3 تريليونات دولار، وأوضحت أن المساعدات الأمريكية خلال فترة الوباء ساعدت مؤشرات الأسهم ومستويات التوظيف على الوصول إلى قمم.
وقالت فرح: «الولايات المتحدة هي الوحيدة، وعلى عكس الدول الأخرى، التي يمكن لها أن تفي بالتزاماتها الدولية عن طريق «طباعة النقود».
وأضافت أن صحة هذه السياسة كانت موضع شك للبعض، خاصة مع فك ارتباط الدولار بأي أصل مادي كالذهب سابقاً، وأوضحت أن الدولار لا يزال مدعوماً بالدين وثقة المشتري بالحكومة الأمريكية.
وأوضحت أن هذه الدعائم لم تعد تكسب ثقة المستثمرين والدول، لا سيما بعد التراجع الكبير في حصة الدولار من احتياطات النقد الأجنبي العالمية، حيث وصلت إلى 59.2% في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، وتراجعت بحدود 61% منذ بدء جائحة كورونا.
وأوضحت أن تراجع احتياطات الدولار أدت إلى مواصلة الاتجاه الهبوطي للدولار والمستمر منذ عقدين من الزمن بعد 80 عاماً من احتلاله الصدارة واعتباره العملة الاحتياطية الأولى في العالم.
وأشارت إلى أن البنوك المركزية باتت تتوجه إلى الاحتياطيات غير التقليدية بما في ذلك الكرونة السويدية والوون الكوري الجنوبي والدولار الكندي والأسترالي.
ارتباط الروبل بالذهب
ومن الأسباب الأخرى التي دفعت بالروبل لتحقيق مستويات جيدة على الرغم من العقوبات، هو الذهب. فرغم من أن روسيا ليست أكبر منتج للذهب في العالم، إلا أنها لاعب مهم في هذا السوق، حيث شكلت حصة روسيا من إنتاج الذهب العالمي خلال العقد الماضي نحو 10% وفي عام 2020 استخرجت روسيا 300 طن من الذهب أي أقل بقليل من أستراليا أو الصين.
وأوضحت فرح أن روسيا تمتلك أكبر ودائع الذهب في العالم، وأن البنك المركزي الروسي يمتلك أكبر احتياطات الذهب في العالم والتي تبلغ نحو 2300 طن من الذهب.
ووفقاً لبيانات مجلس الذهب العالمي، يعد البنك المركزي الروسي في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث احتياطيات الذهب. وعلاوة على ذلك، يمثل الذهب 22% فقط من الاحتياطي الروسي، ما يدل على أن القوة الشرائية للبنك هائلة (في حالة أكبر الاقتصادات في العالم، عادة ما يتجاوز احتياطي الذهب 50%، وأحياناً 60%) حيث يشتري البنك المركزي الروسي بانتظام الذهب من السوق.
من يمتلك السلع يمتلك القوة
بعد الضغط الأوروبي على قطاع المال والبنوك الروسية قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمطالبة مستوردي الغاز الروسي بتسديد ثمنه بالروبل من خلال فتح حسابات مع البنوك الروسية، وحظر المدفوعات باليورو والدولار.
وتوضح فرح أن روسيا اتخذت هذه الخطوة لتدفع الدول المستوردة أن تبيع عملتها في مقابل الحصول على الروبل الروسي ما أدى إلى دعم العملة الروسية في وجه العملات الأخرى كاليورو والدولار الأمريكي - بمعنى أكثر بساطة قامت تلك الدول بأداء دور البنك المركزي الروسي حيث باعت عملات أجنبية طلباً للروبل؛ ما قوى العملة الروسية.
وأكدت فرح أنه على الرغم من التطورات الحالية لا يزال الدولار الأمريكي هو السائد وسط شكوك في أن العالم يتحول بعيداً عن هيمنة الدولار حيث تسببت المستويات القياسية للديون، واستمرار طباعة النقود لتسييل هذه الديون، في انخفاض كبير في قيمة العملة الاحتياطية العالمية على المدى الطويل؛ ما دفع المستثمرين -بما في ذلك الأفراد والحكومات للبحث عن عملات بديلة.
هل العملات المشفرة بديل للدولار؟
من الناحية النظرية تؤمن الأصول المشفرة الملكية الفردية للعملات المشفرة واللامركزية وطريقة آمنة كمخزن للقيمة والتحوط من التضخم المرتبط بقدرة البنوك المركزية على «طباعة النقود» والتحكم بقيمة العملات المحلية، إلا أنه مع انهيار بعض أشهر المشاريع مؤخراً ورفض التدقيقات في احتياطيات الأصول المشفرة، وعدم ارتباط العدد الأكبر منها بأي أصل مادي وعدم اتضاح إطار عملها وتشريعاتها – من الصعب تصنيف الأصول المشفرة كالبديل الأول للحكومات والأفراد عن الدولار كالأصل أكثر أماناً عالمياً، على الأقل في الوقت الحالي، وفقا لمراد.