تتفكك السلاسل التي تربط العالم لتوفِّير السلع، بوتيرةٍ مخيفة، إذ أدت الحرب في أوكرانيا وإغلاقُ كوفيد في الصين إلى تعطيل سلاسل التوريد وهبطت بالنمو إلى أدنى المستويات فيما رفعت التضخم إلى أعلى المستويات منذ أربعين عاماً.
ودفع ذلك «بلومبيرغ إيكونوميكس» إلى تخفيض توقعاتها للناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2022 بنحو 1.6 تريليون دولار، إستناداً إلى محاكاة لما قد يبدو عليه الانعكاس المتسارع للعولمة في المستقبل.
وتتنبأ بكوكبٍ أفقرَ وأقلَّ إنتاجية، حيث عادت التجارة إلى مستويات ما قبل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، إلى جانب احتمالية أن يكون التضخم أعلى وأكثر تقلباً، علماً بأن ندرة السلع عام 2022 تسببت بارتفاع الأسعار وزيادة أرباح الشركات التي تنتجها أو تتداولها، كما كان أداء أسهم شركات الدفاعية متفوقاً بسبب تصاعد التوترات العالمية.
وبحسب، «بلومبيرغ إيكونوميكس»، تميَّزَ الاقتصاد العالمي على مدى ثلاثة عقود بقدرته على إنتاج المزيد من السلع بأسعارٍ أقلَّ من السابق، حيث إن دخول ما يزيد على مليار عامل من الصين والكتلة السوفييتية السابقة إلى سوق العمل العالمية وتلاشي الحواجز التجارية وكفاءة الخدمات اللوجستية أدى إلى عصرٍ من الوفرة.
إعادة تنظيم العولمة
ويرى كبيرُ خبراء الاقتصاد في منظمة التجارة العالمية، روبرت كوبمان أن تجزئة ترابط الاقتصاد العالمي ستظل قائمة، ولكن إعادة تنظيم العولمة ستمنع استخدام الإنتاج منخفض الكلفة وهامشي الكلفة على نطاق واسع كما كان في السابق.
وأعادت اضطرابات السنوات الأربع الماضية مشكلة «الندرة» إلى الواجهة، حيث يمكن للدول النامية أن تشهد تهديدات أكثر حدَّة من حيث الطاقة والأمن الغذائي، بالإضافة إلى التعامل مع ارتفاع الأسعار.
ومن جهةٍ أخرى، شهدت الحرب التجارية ارتفاعَ رسوم الولايات المتحدة المفروضة على البضائع الصينية من 3% إلى نحو 15% خلال عهد دونالد ترامب، كما أن حملة إغلاق كوفيد هذا العام في الصين عرَّضت صادراتٍ بمئات المليارات من الدولارات إلى الخطر وعطَّلت سلاسل التوريد للشركات من «أبل» إلى «تسلا».
وجدير بالذكر أن تدفقات التجارة الخاضعة لحظر التصدير أو الاستيراد بلغت نحو 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 1983، وبحلول عام 2019، ارتفعت إلى ما يزيد على 5 أضعاف.
الحظر الشامل
وازدادت هذه النسبة اليوم بسبب الحظر الشامل الناجم عن الحرب في أوكرانيا والحظر الذي فرضته الهند مؤخراً على صادرات القمح، ويشكِّل هذا جزءاً من انقسام عالميٍّ يضع الغرب والأسواق الحرة في مواجهة مع الصين وروسيا.
يجري تداول نحو 6 تريليونات دولار من السلع، أي ما يعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بين الدول الديمقراطية والاستبدادية. ولتوضيح مخاطر الانهيار الكبير، أدخلت «بلومبيرغ إيكونوميكس» تعريفةً بنسبة 25% على جميع صادرات السلع والخدمات، ووفقاً لهذا السيناريو تراجع التجارة العالمية بنحو 20%، حيث تراجعت إلى مستويات نهاية التسعينات قبل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. وفي الأمد البعيد، يمكن لتراجع العولمة إلى مستويات أواخر التسعينات أن يجعل العالم أفقر بنسبة 3.5% مقارنةً بحالة استقرار التجارة عند حصتها الحالية من الناتج، وأفقر بنسبة 15% مقارنةً بسيناريو تعزيز العلاقات الدولية.
يُظهر السيناريو أنَّ 7% أخرى من العلاقات التجارية الحالية ستتحول بين الكتل، ما يمكن أن يكون انتقالاً للمصانع التي تصنع السلع لصالح أسواق الولايات المتحدة من الصين إلى الهند أو المكسيك. لكنَّ الانتقال سيستغرق بعض الوقت ويتسبَّب في اختناقاتٍ حادَّة، ما ينذر بفترةٍ من التضخم المرتفع والمتقلِّب.
وتنذر هذه الأرقام بالخطر، فعندما أطلق رونالد ريغان على الاتحاد السوفييتي وصف «الإمبراطورية الشريرة»، كانت الدول الديكتاتورية تمثِّل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ولكن بحلول عام 2022، ارتفعت هذه الحصة إلى 34%، مع احتمالية استمرار ارتفاعها في الأعوام المقبلة.
أنظمةً سياسية متنافسة
وتُظهر الحرب في أوكرانيا أنظمةً سياسية متنافسة تصطَّف على الجانبين المتضادين. ويستمر الرئيس الصيني شي جين بينج بدعم حليفه الروسي فلاديمير بوتن، في حين تؤيد أوروبا والولايات المتحدة فرض عقوبات على موسكو وتقديم الدعم العسكري لكييف. لكن العديد من الديمقراطيات الأخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها لا تبدي رغبةً في الانضمام إلى حملة الضغوط الاقتصادية والمالية ضد روسيا.
سواء كان ذلك انقساماً أيديولوجياً أو تبايناً في المصالح في عالمٍ متعدِّدِ الأقطاب، فإنَّ خطوط الصدع العميقة قائمة وحقيقيةٌ، حيث أكّدت التقارير أنّه لا خيار للصين سوى الاستمرار في عمليات الإغلاق القاسية، لتتلقى بذلك ضربة ساحقة للنمو. فيما يواجه بقية العالم المزيد من الاضطراب في سلاسل التوريد بسبب تعطُّل المصانع الصينية وسفن الشحن خارج ميناء شنغهاي.
لكن التهديد الذي تتعرض له اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا لا يقتصر على تداعيات عمليات الإغلاق الصينية أو الانتقام من تدابيرها الخاصة ضد روسيا، حيث يمكن أن تتعرض تلك الاقتصادات للانتقام المباشر. وعمدت روسيا إلى قطع شحنات الغاز إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ما يُعرِّض 40% من إمدادات الاتحاد الأوروبي للخطر.
وبدت درجة الترابط المتمثلة في سلاسل التوريد لشركاتٍ مثل «أبل» كبيرةً للغاية بحيث لا يمكن فكُّ تشابكها. ولكن في ظل أزمة كوفيد واستمرار التعريفات الجمركية للحرب التجارية في عام 2022، تزداد الضغوطات لتوطين سلاسل التوريد وحجب روسيا عن الأسواق الأمريكية والأوروبية، وبذلك يجب أن يستعدُّ العالم لنموٍّ أقلَّ وأسعارٍ أعلى وتقلُّباتٍ متزايدة.